إلى جانب معرض رائد المدرسة الانطباعية كلود مونيه الذي سبق أن كرسنا له مقالاً في هذه الصفحة، والذي يفده يومياً آلاف الزوار، يقام في صالات "متحف القصر الكبير" في باريس أيضاً معرض بعنوان "فرنسا عام 1500، الفنون من مرحلة القرون الوسطى إلى عصر النهضة". يضىء المعرض على النتاج الفني في فرنسا خلال مرحلة امتدت من عام 1480 حتى عام 1500 وتميزت بغزارة إنتاجها وتألقها، كما عكست مرحلة من الانتعاش الاقتصادي وشهدت زيادة في عدد السكان بعد سنوات المجاعة والأوبئة والأزمات الحادة ومنها حرب المائة عام ضد بريطانيا. غير أنّ هذه المرحلة تظل مجهولة من قبل عدد كبير من نقاد الفن الأوروبيين الذين غالباً ما يركزون على النتاج الفني في إيطاليا وهولندا ويتجاهلون ما كان يحصل في المحترفات الفرنسية حيث شمل الإبداع مجالات عديدة منها العمارة والنحت والرسم والزجاج المعشّق والبسط... إنّها المرحلة التي حكم فيها كل من الملك شارل الثامن ولويس الثاني عشر، وقد أراد الأول توسيع حدود الدولة وخاض حملات عسكرية في إيطاليا سمحت للجيش الفرنسي باحتلال فلورنسا وروما ونابولي. أما لويس الثاني عشر فتابع هذه السياسة التوسعية في إيطاليا، كما أنه قام بمجموعة من الإصلاحات شملت القضاء والضرائب. يبيّن المعرض أن الازدهار الفني لم يكن محصوراً في منطقة واحدة بل كان موزّعاً على مناطق كثيرة لأن الأمراء كانوا يتنافسون على اقتناء التحف وتشجيع الفنانين وبناء القصور. في تلك المرحلة، كان الفنّ القوطي لا يزال سائداً، وهذا ما تشهد عليه القصور والكنائس المشيّدة في منطقة النورماندي وباريس وضواحيها. روح التجديد تجسدت في فنون النحت والرسم والتحف التي كانت تزين القصور ومنها القطع الخزفية التي صنعها الخزّاف برنار باليسي وهي تتميز ببريقها وألوانها المشرقة وكان الأمراء يتهافتون على شرائها. بالنسبة إلى الرسم، يُعَدّ جان هاي أبرز فنان عرفته فرنسا خلال العشرين سنة الأخيرة من القرن الخامس عشر. وعلى الرغم من أننا لا نعرف إلا القليل عن سيرة حياته، فإنّ الأعمال القليلة التي تركها تعكس موهبة كبيرة وتفرّداً في رسوم البورتريه والمواضيع المستوحاة من قصص الكتاب المقدس والأساطير القديمة. في أعمال هذا الفنان وأعمال الذين عاصروه نشهد على مرحلة انتقالية تتقاطع فيها مؤثرات فنون القرون الوسطى مع مؤثرات فنون عصر النهضة الآتية من إيطاليا وهولندا. ينطبق ذلك أيضاً على فنون النحت والزجاج الملون. تلك الفنون تظهر الخصوصية الفرنسية في مزجها في بوتقة واحدة بين التراث المحلي والتيارات الفنية الوافدة من الخارج. لم تكن فرنسا آنذاك دولة مركزية موحّدة كما ستصبح لاحقاً، بل كان أمراء المناطق ومنها النورماندي والبروتاني والبورغوني والشامباني يتمتعون بنفوذ كبير. وكان الملوك يستعينون بهم لفرض سيطرتهم وإنجاح حروبهم وهذا ما يفسر انتشار النشاط الفني الذي لم يقتصر فقط على قصور الملوك والمدن التي أقاموا فيها، بل شمل أيضاً جميع المناطق التي تنافس فيها الأمراء الأثرياء على تشجيع الفنانين وبناء قصور تعادل في جمالها القصور الملكية كما في مدينة ديجون في منطقة البورغوني. العودة إلى الفنّ الفرنسي في المرحلة الممتدة من نهاية القرن الخامس عشر إلى مطلع القرن السادس عشر تكشف عن جوانب من تاريخ الفن الفرنسي ومساره وخصوصيته. ولئن كان ذلك الفن قد تجسد، بصورة خاصّة، في تحف تزيّن القصور وعرفت تجديداً بالنسبة إلى المراحل التي سبقتها، فإنه كان بمثابة العتبة التي أدت، في وقت لاحق، إلى انتفاضات فنية تعبيرية تجسدت في أعمال فنانين فرنسيين كبار من أمثال نيكولا بوسان وكلود لورين وجورج دولاتور الذين تمكنوا، رغم نهلهم من الفنون الإيطالية، من ابتكار أسلوبهم الخاص الذي تميز معه الفن الفرنسي عن غيره من الفنون الأوروبية.