فتحت الأحداث التي وقعت في المنطقة العربية في العقدين الأخيرين، نافذة كبيرة أمام الفتاوى، ما جعل الكثير من غير المؤهلين للإفتاء يلجون من باب الفتوى لمصادرة الرأي العام أو توجيهه، وفق أهوائهم في أحسن الأحوال. في العقدين الماضيين تضاربت الفتاوى حول «فريضة الجهاد»، فهذا يجيزه من دون النظر لموقف ولي الأمر، وآخر يرى أن في فتوى الأول خروجاً على ولي الأمر. الأول يريد أن يطبق فريضة الجهاد، كما هي في بداية الدعوة المحمدية، من دون أن يراعي التطورات التي حدثت خلال أكثر من 1300 عام. في بداية الدعوة المحمدية وبداية تكوين نواة الدولة الإسلامية وصولاً إلى مطلع عهد الخلافة الراشدة، كانت الدولة الإسلامية دولة ناشئة تحتاج إلى من يحميها ممن يتربّص بها في داخل الجزيرة العربية وخارجها. الدولة الإسلامية الناشئة آنذاك، تحولت مع مرور الزمن إلى مجموعة من الكيانات الوطنية الموزعة على قارات الكون، من إندونيسيا شرقاً إلى الولاياتالمتحدة غرباً، ومن القطب الشمالي إلى القطب الجنوبي للكرة الأرضية. هذه الكيانات الوطنية التي خرجت من رحم الدولة الإسلامية لتتوزع في القارات، وضعت مؤسسات لحماية المجتمع من التقلبات الفكرية والعقدية، كما وضعت لنفسها أنظمة تحميها من الانهيار، بعض هذه الأنظمة مستمد من الشريعة، والبعض الآخر وضع لمراعاة ومسايرة الواقع الذي يفرضه الإيقاع السريع للحياة وضرورة التعايش مع الآخر وفق النظام العالمي الجديد، مع الاحتفاظ بالإسلام ديناً رسمياً لهذه الدولة أو تلك. الدول التي لا تطبق الشريعة وكذلك التي تطبقها، أسست جيوشاً لحماية حدود الدولة، وشرطة لحماية الأمن الداخلي للمواطن، كما أسست دوراً للفتوى واختارت لها علماء مؤهلين وقادرين على التصدي للنوازل والمحن، أياً كانت مأخذ الطرف الآخر عليهم. الفتوى التي صدرت في صدر الإسلام، ليس بالضرورة أن تكون صالحة للتداول في هذا العصر، وإذا كان بعض من تصدوا للفتوى وهم غير أهل لها، حريصين على الإسلام، فعليهم أن يجتهدوا ويتصدوا لتطوير هذه الفتوى، وأن يضعوا لها قواعد ونظماً ومخرجات تراعي الواقع المعاش ولا تتعارض مع النصوص الشرعية، وبذلك يكونوا قدموا واحدة من أفضل الخدمات للدين. الكيانات الإسلامية، التي انبثقت عن الدولة الإسلامية، لديها اليوم جيوش تستطيع على الأقل أن تدافع عن حدود الدولة، ولديها أيضاً قوات أمن لديها القدرة والمهارة والحرفية لحفظ أمن الوطن والمواطن، بمعنى أن الدولة الإسلامية الحديثة ليست ملزمة بإعلان النفير العام، كلما دوت صافرة إنذار هنا وحرب هناك. الحرب اليوم تختلف عن حرب البسوس وداحس والغبراء، الحرب اليوم تعتمد على السلاح المزوّد بالتقنية العالية، على الصواريخ الموجهة لآلاف الكيلومترات عبر حاسب محمول، على الطائرات من دون طيار، ولكم أن تتصوروا لو أن رئيساً مسلماً دعا شعبه إلى الجهاد ابان غزو العراق، ترى ما الذي سيحصل؟ من المؤكد أن الآلة العسكرية الأميركية ستحصد آلاف الأرواح البريئة. مفهوم الدولة الإسلامية، (بمعنى الخلافة الإسلامية وأمير المؤمنين الذي يخاطب الغيمة ويقول لها: أمطري أنى شئت فخراجك لي)، لم يعد قائماً وعودته أصبحت ضرباً من المستحيل، كما أن الكيانات الوطنية الإسلامية التي خرجت من رحم الدولة الإسلامية أصبحت ملزمة بمواثيق ومعاهدات دولية وأصبحت جزءاً من المنظومة العالمية، وبالتالي عليها التزامات ولها حقوق يجب أن تتعاطى معها وفق الواقع المعاش، لا أن تعود لتستل فتوى صدرت قبل 13 قرناً أو يزيد. الذين تصدوا للفتوى من أبناء جلدتنا وهم غير مؤهلين، لا بد أنهم يدركون أو أدركوا أن أساليب الحرب تغيرت، وأن طائرة غربية واحدة من دون طيار تستطيع أن تحصي جميع أنفاس الزعماء المسلمين في أسرتهم، والسؤال: لماذا يدفع بضعة وعشرون طالب علم لإصدار فتوى تدفع أبناءنا إلى الموت في العراق والصومال والشيشان، وقد فعل البعض منهم ذلك عندما أصدروا فتوى تجيز الجهاد في بلاد الرافدين.