بعد فترةٍ قصيرة من انطلاق معرض «أوروبا الحديثة وفنون الإسلام» في متحف مدينة ليون للفنون الجميلة، افتُتح في «مركز الإحسان» في مدينة مرسيليا معرض آخر بعنوان «الاستشراق في أوروبا – من دولاكروا إلى ماتيس» تنظمه «جمعية المتاحف الوطنية» بالاشتراك مع متاحف بلجيكا الملكية ومؤسسة «كونستال» الألمانية. معرضان إذاً حول الموضوع نفسه تقريباً يتبيّن فيهما مدى ولع الأوروبيين بفنون شرقنا وحضارته وفضائه الجغرافي خلال القرن التاسع عشر ودور هذا الولع في انبثاق أو بلورة الفن الحديث في أوروبا. وهي مناسبة نستغلها للتوقف عند هذا الموضوع على ضوء الأعمال والمعطيات المتوافرة داخل المعرضين. تجدر الإشارة أولاً إلى أن اهتمام الأوروبيين بفنون الإسلام قديم قدم علاقاتهم بشعوبه وحضارته؛ اهتمامٌ غذى في شكل ثابت فيهم تساؤلاً حول الذات من خلال صورة الآخر. لكن في نهاية القرن الثامن عشر وبداية القرن التاسع عشر، حصلت قطيعة مهمة في طبيعة هذا الاهتمام مع بداية التوسع الأوروبي داخل شرقنا الذي دشنه نابليون بحملته الشهيرة على مصر (1798-1801)، ولكن أيضاً مع بداية كتابة تاريخ الفن بطموحٍ علمي، أي عبر مختلف تجلّيات هذا الفن خارج العالم الأوروبي. ففي فرنسا مثلاً، سمحت الثورة بتشكيل مجموعاتٍ (collections) عامة في متحف اللوفر والمكتبة الوطنية انطلاقاً من قطع فنية شرقية كانت مبعثرة داخل مجموعات ملكية أو كنسية، وذلك بموازاة تشكّل مجموعات خاصة على يد بعض النبلاء، كمجموعة الدوق دو بلاكا. وفي البداية، قوربت هذه القطع كشهاداتٍ لفهم تاريخ الشعوب المسلمة وعاداتها وشِيَمها واستخداماتها اللغوية على ضوء ما تحمله من نقوشٍ ونصوص. ولكن تدريجاً، أغنت نظرة الأوروبيين الجمالية لهذه القطع المقاربة الوثائقية. من جهة أخرى، فتح التوسع السياسي والاقتصادي والعسكري الأوروبي داخل آسيا وأفريقيا أبواب السفر أمام الأوروبيين في شكل عام، وفنانيهم في شكلٍ خاص فرسموا بسرعة جغرافيا متيمة (fétiche) لشرقنا تتخللها نقاط جذبٍ رئيسية، كمدن غرناطةوالقاهرةوإسطنبول وأصفهان، اختيرت ليس فقط لهالتها الأسطورية بل أيضاً لغناها الهندسي. وفعلاً، بعد المنشورات الغزيرة التي تناولت بين عامَي 1809 و1829 الإنجازات العلمية لحملة بونابرت وتركزت على وصف آثار مصر الفرعونية، صدرت أبحاث أخرى مخصصة لأهم المواقع المدينية في العالم الإسلامي بين عامي 1830 و1850، وضعها في معظم الأحيان مهندسون سافروا إلى شرقنا بحثاً عن معابد فرعونية ويونانية وآشورية فعثروا على ضالتهم في الأشكال الساحرة وغير المتوقعة لمساجد القاهرة أو إسطنبول أو أصفهان. وفي أبحاثهم، تحوّل الافتتان والدهشة بسرعة إلى تحليلاتٍ رياضية وتقنية تشكل نقيضاً لاستيهامات بعض الرسامين الاستشراقية وتُبرِّز الدقة الهندسية للزخرفات والصروح الموصوفة. وبسرعة أيضاً، نسج هؤلاء الفنانون الرحّالة روابط في ما بينهم وساهموا في إطلاق فكرة الوحدة الجمالية لفنون الإسلام التي ترتكز على تناغمٍ فريد بين الفن والعلم. أما الرسم الاستشراقي فهدف إلى تشييد عالم مواز هو كناية عن هروب داخل حلم يبرره رفض للحداثة الغربية السائدة. وفي هذا السياق، وظف أرباب هذا الرسم الفنون الإسلامية داخل الآليات البصرية لهذا الحلم المجلوب الذي نشاهد فيه إلى ما لا نهاية نساءً شهوانيات ورجالاً متسلطين وعبيداً خاضعين على خلفية مساجد أو مشربيات أو شجر نخيل. ولإقناع المتأمل بأصالة مشاهدهم الاستيهامية، عمد هؤلاء الرسامون في تشكيلاتٍ يغلب عليها الطابع السردي إلى نقل دقيق للقطع الفنية والصروح المختارة، فتحولت من وثائق إلى ديكور عالم خيالي لا يمت بأي صلة إلى الواقع. ويتطابق الحلم «الشرقي» بدقة مع مبادئ التمثيل الأكاديمي في أوروبا آنذاك. فبخلاف التصوير الفوتوغرافي، يسمح فن الرسم بمنح الخيال ظواهر الواقع البراقة. وخلال رحلاتهم الغزيرة إلى شرقنا، ساهم الرسامون الأوروبيون في إنتاج تمثيلات فاتنة وبشعة معاً لثقافاته عبر قيامهم بتمجيد ماضيه العريق وفضح فقر حاضره في آن واحد. وتدريجياً، انحرف ذلك الحنين الرومنطيقي لعالم أصلي وأوّلي وتحول إلى إنتاج تجاري ومكرَّر لصور مقولبة حول عنف الشرقيين أو شهوانيتهم عكست المشاهد الإيروسية أو السادية فيها هواجس المجتمعات الأوروبية نفسها. وفي النصف الثاني من القرن التاسع عشر نشطت فرنسا وبريطانيا في ترويج نماذج الفن الإسلامي بهدف تحسين قيمة وتنافسية إنتاجهما المصنع. فبفضل جانبها العقلاني، كانت هذه النماذج قادرة على التكيّف مع أنظمة الإنتاج الصناعية، كما كانت قادرة، بفضل غناها الزخرفي، على إثارة حس الابتكار لدى فناني الديكور والديزاين في البلدين المذكورَين. المهندس أوين جونس مثلاً كان أكثر المدافعين حماسةً عن أمثولة الفن الإسلامي في بريطانيا. ففي بحثه «قواعد الزخرفة» (1856)، منح هذا الفن موقعاً مركزياً. وبدلاً من تبرير تكرار الأساليب القديمة، دعا إلى فهم أو استخدام مبادئ ابتكارية استنتجها داخل هذا الفن وقارن دقة انتشار الزخرفة الإسلامية انطلاقاً من عدد ضئيل من الأشكال الأساسية بمبادئ النحو ومبادئ الموسيقى الغربية المؤلّفة من نوتات سبع. وفي بداية القرن العشرين، أدّى التشكيك بمبدأ تشابه الصورة مع موضوعها الذي كان لا يزال طاغياً في أوروبا إلى استكشاف بعض الفنانين المقاربات التي بلورتها ثقافات أخرى. وفي هذا السياق، عثر هنري ماتيس وبول كلي داخل الفنون الإسلامية على معطيات كافية لتحويل علاقة الغرب مع الصورة في شكل راديكالي وتجاوز المقابلة التقليدية بين التمثيل والزخرفة.