الحال التي تسود العالم العربي لا تسر صديقاً وتشفي غليل الأعداء، أعاصير وفتن واقتتال وصراعات لم تترك لنا، طريقاً لنسمة تفاؤل تريح النفوس وتهدأ بها الخواطر. هات خريطة الوطن العربي وأغمض عينيك، ثم ضع إصبعك على الخريطة، فستجد أن إصبعك لا بد واقع على ساحة اقتتال أو بؤرة توتر أو موقع صراع، وذلك ببساطة لأن جسم العالم العربي كله أصبح مسرحاً للتوتر والصراع والاقتتال حتى تكسرت السهام على السهام. العالم العربي يموج بالمحن والفتن من المحيط غرباً (حيث صحراء أوغادين) إلى الخليج العربي شرقاً (حيث العراق الجريح)، ومن لبنان الجميل شمالاً إلى الصومال الحزين جنوباً. وهكذا فمن بين مناطق العالم جميعاً، تتركز الصراعات في هذا الجزء من العالم الذي يسمى العالم العربي، ولنا أن نسأل لماذا لا تخلو معظم أقطار هذا العالم العربي من الصراع والاقتتال والفتن؟ والعجيب أن الاقتتال يكون بين أبناء القطر الواحد والوطن الواحد، فيتآمر المواطن على ابن جلدته، ويطلق الأخ الرصاص على صدر أخيه، وابن العم على ابن عمه، طمعاً أو جشعاً أو ضعف نظر. واذا كان المثل القديم عندنا يقول: «أنا وأخي على ابن عمي وأنا وابن عمي على الغريب»، فقد أصبح «أنا والغريب على ابن عمي وأنا وابن عمي على أخي». ما هو سبب هذه الصراعات وذلك الاقتتال؟ الإجابة على هذا السؤال صعبة مثلما أن السؤال نفسه مؤلم وقاسٍ. فهل سبب تلك الصراعات هو الجشع والطمع؟ أم هو الأنانية والنرجسية وحب الذات؟ أم هو نتيجة قصر النظر وضيق الأفق؟ أم أن فينا «جينة وراثية» تدفعنا الى الاقتتال؟ أم روح القبلية الكامنة في ركن قصي من نفوسنا لم تمنعها حضارة ولم يقض عليها تمدن هي المسؤولة عن ذلك؟ أم أن الصراعات تحركها أيد أجنبية من وراء ستار؟ ومهما كان الجواب، فنحن بأفعالنا تلك نرتكب الجرم في حق أوطاننا وحق أنفسنا وحق أجيالنا المقبلة. وعلى كل حال، فإن كل تلك الأسباب التي تساءلنا عنها، وان لم تكن وحدها هي من أسباب الصراع، ففي كل تلك الصراعات يتجلى الجشع والطمع في أسوأ صوره، فالأخ يريد كل شيء لنفسه، ولا يريد أن يترك حتى الفتات لأخيه، وفي كل تلك الصراعات أو جلها تبدو الأنانية والنرجسية وحب الذات، واضحة جلية للعين حتى لو كان بها عشى، فكثير منا لسان حاله يقول: «أنا ُثم أنا والآخرون إلى الجحيم». أما قصر النظر وضيق الأفق، فلا شك لهما النصيب الأعلى في قيام تلك الصراعات واستمرارها. فأي عقل وأي بعد نظر هذا الذي يجعل أبناء الوطن الواحد يقتتلون من أجل مصالح آنية أو مكاسب موقتة، ويحرقون باقتتالهم ذلك بلادهم ويحولونها إلى دمار، فيزول خيرها ويُشرَّدُ إنسانها، ولا يبقى فيها ما يقتسم إن عادت لهم عقولهم يوماً وقرروا اقتسام خيراتها من دون قتال. أما عن وجود (جينة) تحمل صفة وراثية، تدفع العربي لقتال أخيه وجاره وابن بلده، فقد نكون سألناه لمجرد إيجاد عذر لأنفسنا يبرر لنا هذا الاقتتال الأحمق، ولكن هل هو افتراض مستبعد؟ ألم يكن أجدادنا في الجاهلية يتقاتلون لأتفه الأسباب السنوات الطوال؟ ألم يكن العربي يغزو جاره لمجرد الغزو ظلماً وجوراً؟ وإذا آمنا بوجود هذه الصفة الوراثية في دمائنا، فلا بد من أن نعترف أنها كانت جينة وراثية (متنحية) حتى قرون مضت، فقد نحاها الإسلام بتعاليمه السمحة، وسماحته الرائعة وأثره القوي في النفوس وتوجيهها نحو الخير، ولما ضعف الإسلام في نفوسنا وقل أثره عندنا، استيقظت فينا روح القتال وروح القبلية، ورحنا نقتل بعضنا بعضاً بلا روية وبلا تعقل. أما عن وجود أيد أجنبية تؤجج الصراعات، وتحركها في خفاء، فلا ينكرها إلا من كان في عينيه عشى مرض أو على قلبه غشاوة من غرض، أو في نفسه تلبيس من مرض، ولكن الحقيقة أنه ما كان لهذه الأيدي أن يكون لها أثر لولا أنها وجدت فينا ضعفاً واستعداداً للانقياد والانصياع لتحقيق أهدافها الخبيثة وأغراضها الدنيئة. والعجيب أن كثيراً من العرب يبرئون الغرب وأميركا من أي تدخل في الصراعات العربية ويقولون إنهم بريئون منها براءة الذئب من دم ابن يعقوب، حتى وصل بهم الأمر أن سموها «عقدة المؤامرة». ونقول لهؤلاء: إن التدخل الأجنبي أوضح من أن ينكر وأكبر من أن يخفى، وقد تعدى الآن مرحلة الخفاء والاختفاء إلى الوضوح والمجاهرة والغزو المباشر، فقد كان هؤلاء المتدخلون - قبل مدة من الزمن يتجنبون التدخل السافر، خوفاً من موقف موحد، أو قرار جامع يؤثر بعض تأثير، أو فعل يؤدي إلى شيء من لحمة وتكتل، فكانوا لذلك يتآمرون سراً ويقرصون من تحت الطاولة. أما بعد أن تمزقنا أيدي سبأ وضعفنا حتى بلغ الضعف منا مداه، واطمأن الأعداء الى استحالة موقف موحد، أو قرار جامع، أو فعل يؤدي إلى لحمة فاعلة، أصبح لعبهم على (المكشوف) وتدخلهم سافراً، فقد أصبحنا عندهم اقل من أن يراعى لنا خاطر او يسمع لنا صوت احتجاج، فها هي أميركا قد غزت العراق بجنودها ودباباتها وطائراتها وصواريخها وسفنها، واحتلته بالقوة المعراة بعد أن احتلت أفغانستان وحولتها إلى أخطر بؤرة صراع في العالم، وهي كانت تعلم حين غزتهما أنها لن تخرج قريباً وأنها حتى لو خرجت فإنها مهدت الطريق ليكون العراق وأفغانستان مسرحاً لعراك لا يهدأ وصراع لا ينطفئ. ودفعت أميركا بأثيوبيا الى غزو الصومال نيابة عنها، والحقيقة أنه لا أميركا ولا أثيوبيا تريدان خير الصومال أو السلام للصوماليين، وإنما دفعتها لغزوه أطماع استعمارية خبيثة، فأميركا سعت لإعادة الصومال إلى عهد القتال والاقتتال بعد أن أصبح يتمتع بشيء من الأمن وأججت ناراً يصعب إطفاؤها وغرضها أن يصبح الصومال أكثر تمزقاً وأشد ضعفاً، فقد عجزت ان تسيطر عليه وتضع يدها على موقعه الاستراتيجي وهو لا تزال فيه بقية من قوة، وفي أهله شيء من تماسك. وإذا تركنا التدخل المباشر جانباً وتطرقنا إلى التدخل من وراء حجاب فهل هو خافٍ على ذي بصر أو بصيرة في كل بؤرة من بؤر الصراع في الوطن العربي؟ ولو أخذنا السودان مثالاً، فلنا أن نتساءل لماذا بدأت الحرب في دارفور بمجرد توقيع اتفاقية سلام الجنوب في نيفاشا؟ وإذا كانت أميركا تنكر التدخل في دارفور فقد كشفته حليفتها إسرائيل، حيث اعترف أحد القادة العسكريين الكبار في إسرائيل في ندوة علنية أن لإسرائيل تدخلاً كبيراً وفاعلاً من خلال الذراع الأميركي في دارفور حتى تشغل السودان وأهله عن تنمية موارده، إذ انه يملك موارد هائلة سوف تجير لمصلحة أهله لو تفرغ السودان للتنمية، وهذا خطر كبير على إسرائيل كما قال، ولا شك ان إصدار المدعي العام في محكمة الجنايات الدولية مذكرة اعتقال الرئيس البشير يعد مثلاً حياً لتدخل الغرب في شؤون السودان الداخلية ويعتبر الخطوة الأخيرة في تقسيم السودان، فهذا الأمر ستكون له تبعات خطيرة على السودان وعلى عملية السلام الشامل، وبروز أزمات أكثر في الأشهر القليلة القادمة في ذلك البلد الذي أصبح مطمعاً للدول الكبرى تتصارع عليه لثرواته الواعدة النفطية والمعدنية والزراعية وغيرها، وزعزعة أمنه واستقراره سيمتد أثرها إلى المنطقة برمتها، فالسودان أولاً ودول الجوار ثانياً! المهم أن العالم العربي من خليجه إلى محيطه غارق حتى أذنيه في صراعات داخلية وخارجية قد تخرج من رحمها أزمات وكوارث أفدح وأمر قد تأتي على الأخضر واليابس إذا ادلهمت الأمور وإذا لم يتدارك القادة والحكماء والشعوب الخطر المحدق بالأمة! * رئيس مركز الخليج العربي للطّاقة والدّراسات الاستراتيجية [email protected]