تورطت في السفر، كنت في طفولتي أتابع الكثير من الأفلام التي تدور حول بساط الريح، أتخيل نفسي علاء الدين. أطير بفرشاتي كي أتناول المستحيل، ألوّنه في أكثر من شكل، أنثره كالنجوم على المساحات الفارغة في القلب. كانت أحلامي ضيقة. أرسم المدن على ورق، أصنع منها حكايات طائرة، أخلقُ منها عوالم غير مرئية، ثم أرويها بأكثر من حرف. أذكر في معرضي الشخصي الأول في جدة حين دنا من قلقي الأستاذ عابد خزندار قائلاً لي: «السفر زاد لا ينضب»، تدثرتُ بكلماته وكأنها بساط ملون، تنقلتُ من مدينة لأخرى. كانت لندن محطتي الأولى، بين الحفر والطباعة، تعلمت كيف أحفر من الألم فرحاً، فأطبعه بسمة على الشفاه. من زياراتي المستمرة لمتاحفها (ناشيونال غاليري National Gallery، رويال أكاديمي Royal Academy، تيت مودرنTate Modern). تفتحت آفاقي اللونية، ازدادت حصيلتي الثقافية التشكيلية بصرياً. وبالتالي تغيّرت مفاهيمي الفكرية لغرابة ما شاهدت، فالأعمال الفنية لكل من الفنانين منى حاطوم، وفريدا كالو، وبيل فيولا، ودميان هيرست، ولويز بورجوا وغيرهم، كانت تدعوني إلى تأملها بصمت، استنبطتُ منها إصراراً على ألا أكون متكررة بل متغيرة، متجددة كتجدد الأيام في قصاصاتها. للمدن روح وروحها نحن. نصنع وجودنا فيها فتخلق لنا الدهشة. كم من مسافر سافر ولكنه عاد من سفره بحقيبة فارغة من الذكريات! لذا في كل مدينة أزورها تنشأ بيننا صداقة، أحاكيها فتحاكيني، باريس، برج إيفل، اللوفر، سانتر بامبيدو، نهر السين ومقاهيها المظللة بأخبار السياح، الأشجار التي تُخبئ بين أوراقها عبور المسافرين صوبها، حكاويهم المتعبة أتناقلها في ألواني، تجوالات لا تهدأ، أزمان ملونة. تقترب مني المسافات بين القديم والمعاصر، أصبح همزة وصل أفكّك وأحلل كيف أضيف لمن سبقني وجوداً تشكيلياً مبهراً. اكتشافات السفر فيض، نافورة روما، تمثال الحرية، إسطنبول ومخطوطاتها الإسلامية، بيروت والروشة، فيروز تغني: «أنا عندي حنين ما بعرف لمين!»، حنين للطبشور، للزمن الأبيض والأسود، لأقدام تعبت من عتبات الترحال. تعود من بساطها الملون وقد جمعت تذكاراتها من أكثر من نوع. هدايا مدن أحوّلها للوحات لا تنتهي. في السفر ألتصق بوطني أكثر، رائحة أرضه المبللة بالأمن تصبح هي النداء الدائم للعطاء. [email protected]