في دورته الثامنة والسبعين التي تبدأ فاعلياتها بعد أيام، يمضي مهرجان برلين السينمائي على نهجه، الذي اختطه لنفسه وبخاصة منذ تولي ديتر كوسليك إدارته عام 2001، في ربط السينما بالسياسة وعملية التغيير الاجتماعي، دون إعارة انتباه إلى انتقادات وملاحظات تحذر من أخذه إلى مواقع بعيدة من دوره كمهرجان سينمائي أكثر منه نشاطاً آخراً. فبرنامج الدورة ال68 والفاعليات المصاحبة لها، تشي بإيغال أكثر في العمق «الثوري» والتفكير بتحويل المهرجان منصة لعرض قضايا العالم على الشاشة وخارجها، ولتأكيدها نظم فاعلية واسعة لمناقشة موضوع التحرش الجنسي على ضوء فضائح المنتج السينمائي هارفي وينشتاين وإشارته الواضحة إلى التزام المهرجان مناقشتها، توافقاً مع فهمه لدور السينما بوصفها «فناً مثل بقية الفنون» معنياً بطرح الأسئلة الجمالية والاجتماعية وأحياناً تعيننا الأفلام نفسها، كما أشار مديره «على فهم ما يحصل حولنا ومعرفة مكاننا في هذا العالم وأي الطرق نسير؟»، وفي سياقها يمكن فهم اختياره طباخة سورية لاجئة لإعداد طعام حفل استقبال ضيوفه، وفي مبادرة ملفتة للنظر عنوانها «لا للتمييز» حيث يستدعي المهرجان، خلال أيام انعقاده، خبراء مختصين في الموضوع لتقديم المشورة والنصح لمَنْ تعرض من زواره لشكل من أشكال التمييز، الى جانب برمجته أفلاماً بمناسبة مرور خمسين عاماً على «حركة 68» الطلابية الفرنسية، تعكس مضامينها الحراك الشعبي وهزها أركان الثابت في المؤسسات السياسية، حتى فيلم الافتتاح «جزيرة الكلاب» للمخرج ويسّ اندرسون فيه من دلالات قدرة الإنسان على مواجهة الفساد والظلم. في الأحوال كافة يشي اختياره بجرأة منظميه باعتباره تاريخياً أول فيلم «تحريك» يفتتح أعمال دورة برليناله التي تضم عشرات الأفلام المهمة سواء داخل مسابقاته الرسمية وخارجها ولتعزيز وجهته أضاف الى مسابقة «الدب الذهبي» وفي آخر لحظة الفيلم النرويجي «أوتويا 22 يوليو» عن المجزرة، التي ارتكبها العنصري اليميني أندش بيهرينغ في الجزيرة وقتل فيها 68 شخصاً من اتحاد حزب العمال النرويجي. ومن الآن بدأ الجدل حول مدى ملائمة اعادة عرض ما حصل «سينمائياً» وضمان عدم جرحه مشاعر ذويّ الضحايا؟. العربية دائمة الحضور في السنوات الأخيرة، اهتم المهرجان كثيراً بالسينما العربية، فتجاوز وجودها الجيد فيه مع الوقت «المناسباتية» ليصبح حضوراً مألوفاً. صحيح أنها لم تصل بعد إلى مستوى المشاركة في المسابقة الرسمية الكبرى له، لكنها كانت حاضرة في بقية أقسامه ومسابقاته مثل، «البانوراما» و «الفوروم» و «الفورم الموسع». ومن يعرف البرليناله جيداً يعرف أهمية ما مبرمج فيها من أفلام تفوق في أحيان كثيرة أفلام المسابقة نفسها، ومن محاسن توزيعه الأفلام على أكثر من خانة ومسابقة، إتاحة الفرصة لبعض الأفلام المشاركة في مسابقات معينة مثلاً من تقديمها ضمن خانات أخرى مختلفة، وبالتالي فلا «غيتو» ولا تفاضلات ثابتة كما يكون العمل عادة في أغلب المهرجانات، ومن هنا فمشاركة الأفلام العربية في أي قسم كان هي بمثابة اعتراف بقيمته، فالبرليناله لا تزج عادة إلا ما تجده جيداً أو فيه من التميّز ما يؤهله للمجيء الى برلين ومنها يمكن له الانطلاق إلى بقية أنحاء العالم. نظرة على برنامج دورة هذا العام (15 - 25 شباط/ فبراير) تكشف حجم المساهمات العربية، من بينها الفيلم المصري- اللبناني المشترك «الجمعية» المعروض في «البانوراما». مخرجته اللبنانية ريم صالح قضت سنوات تصور في حي «روض الفرج» الفقير في القاهرة تتباع نشاط بطلتها «أم غريب» في «الجمعية» التي تأخذ عادة شكل بنك تعاوني «شخصي» بدلاً من البنوك وفوائد قروضها، يتشارك فيها عدد من الأشخاص بمبلغ معين وفي نهاية كل شهر يُسلم المجموع إلى واحد منهم. من ذلك الفعل يذهب الفيلم لكشف الصراع اليومي لسكانه من أجل تأمين لقمة عيشهم ومجابهتم الفقر والمرض وعبرها يتناول قصصاً جانبية شديدة الصلة بواقع الأحياء الفقيرة في مصر اليوم، ومنها أيضاً وفي قسم «فوروم الموسع» يعرض وثائقي جورجيس سلامة ومارينا جيوتي وبشراكة إنتاجية يونانية حمل عنوان، «أيادي خفية» إلى جانب القصيّرين «قبل ما أنسى» لمريم مكيوي ووثائقي مايا شوربجي «وأخيراً مصيبة». التراجيدية السورية مفصل صغير منها يعرضه الفيلم السوري اللبناني المشترك «أرض المحشر» يقترح فيه مخرجه ميلاد أمين عرض تفاصيل الأيام الأخيرة قبل سقوط الطرف الشرقي من حلب. فيما يعرض اللبنانيان محمد سويد وغسان سلهب فيلمهما القصير «ع قد الشوق». في «الفوروم» هناك مغربيان، الأول اسمه تكرس في البرليناله لعدة سنوات وهذه السنة يأتي هشام العسري بجديدة «جاهلية» فيما تذهب مواطنته نرجس نجار لتجسيد معاناة آلاف من المغاربة المرحلين قسراً من الجزائر وتوزع أفراد بعض العوائل منها بين طرفيها فغدوا عملياً من دون وطن. «أبارثيد» أو «بدون هوية» سيجاور- الفلسطيني الأرمينياني المشترك «فيلم في غير أوانه.. لكل شخص ولا لأحد» لإيرين أناستاس ورني جابري بعد قيام مخرجاه عام 2007 برحلة إلى عدد من الدول العربية، حصيلة ما صوروه فيها أعاد التفكير بما شهدته بعض تلك الدول لاحقاً من تحولات دراماتيكية. السرد يصاغ بوحي من مؤلف الفيلسوف الألماني نيتشه «هكذا تكلم زرادشت». فيما تعود ثانية الفلسطينية جمانة مناع بعنوان، «قرابة برية» بعد تقديم فيلمها «مادة سحرية تسري في داخلي» في نفس المهرجان. جرياً على تقاليده بتكريم شخصية سينمائية ما على مجمل انجازها الفني، هذا العام وقع اختيار المهرجان على الممثل الأميركي ويليم دافو، الذي وصفه، من المداومين على حضوره عبر أفلامه ومشاركاته المتكررة في عمل لجان تحكيمها، وآخرها كان عام 2007، عندما اختير عضواً في لجنة مسابقة دورتها الرسمية. وبرر المهرجان أسباب ترشيحه بقوة حضوره كممثل وقف أمام مخرجين كبار مثل؛ أوليفر ستون، مارتن سكورسيزي، كاثرين بيجلو وبول شريدر. كما مثل في مئة فيلم لعب فيها أدواراً مختلفة وأحياناً شديدة التناقض، لامتلاكه موهبة تمثيل صقلها بدراسة السينما والمسرح، وسهلت عليه التعبير بعمق عن طبيعة الشخصيات التي تقمصها، وبفضل بعضها رشح أكثر من مرة لنيل جوائز الأوسكار آخرها هذا العام عن دوره في فيلم «مشروع فلوريدا». دافو مكرماً و «الدب» ينتظر على مستوى المسابقة الكبرى وأفلامها فكما الدورة السابقة قلَّت الأسماء الكبيرة فيها ما سيضفي كالعادة جواً من الترقب وانتظار المفاجآت من صناع سينما بعضهم يعرض فيها عمله الطويل الأول مثل، الباراغواي مارسيلّو مارتينيزي وفيلمه «المهيمنون» والرومانية أدينا بينتيلي المتبارية بفلمها «لا تمسكني»، في حين أُدرجت أخرى معروفة خارج المسابقة مثل صاحب رائعة «ترافيك» ستيفن سودربيرغ، وتبقى الأنظار متجهة نحو الفليبيني لاف دياز والأمريكي غوس فان سانت فيما يأتي الإيراني ماني حقيقي ليمثل جزءاً من المشهد السينمائي الشرق أوسطي عبر فيلمه «الخنزير» وعوالمه المنتمية الى السينما والاشتغال بها. أربعة وعشرون فيلماً 19 منها تتسابق على جائزتي الدب الذهبي والفضي، عددها يحيل الى قدرة المهرجان في جمع عناوين مهمة اعتماداً على شهرته؛ كواحد من أهم المهرجانات السينمائية في العالم، يريد الاحتفاظ بها لا عبر توسيع سوقه الجد مهم، والذي ستحل القارة الأفريقية ضيفاً عليه تحت عنوان «ذات مرة حضرت السينما الأفريقة إلى سوق الأفلام الأوربية»، إضافة إلى مشاريع وصناديق دعم السينما العالمية وشعبيته الداخلية الأوسع بين أمثاله فحسب، بل عبر مراعاة إعتبارات تجارية أيضاً عنوانها الدائم «السجادة الحمراء» وكون برلين منطلقاً لترويج الأفلام العالمية وبخاصة الهوليوودية المعروضة فيه إلى بقية القارة، إلا أنه وعلى رغم كل ذلك يبقى معنياً بمحليته التي يكرس لها برامج خاصة ويوسع باستمرار من مساحة عرض السينما الألمانية كما بقية الفاعليات المُحيلة العاصمة برلين خلال أيامه إلى شعلة متوهجة كما ثلجها.