يلامس اقتراح الموفد الاميركي الى الشرق الاوسط جورج ميتشل، بإحياء لجنة اتفاق الهدنة بين لبنان واسرائيل، جوهر المشكلة اللبنانية منذ اربعة عقود والعقبة الرئيسية امام عودة هذا البلد الى وضعه الطبيعي بعدما تحول منذ مطلع السبعينات ممراً لكل من يسعى الى فرض نفسه طرفاً في المعادلة الاقليمية ويرغب في مفاوضة الاميركيين على دور عبر مناوشة حليفهم الاسرائيلي وتجريد الدولة اللبنانية من أداة قانونية دولية تحمي حدودها. فلبنان الذي لم يدخل حرب العام 1967 ولم يخسر اجزاء من ارضه خلالها مثلما حصل مع دول عربية اخرى، وجد نفسه بعد فترة وجيزة وحيداً في خضم المواجهة مع اسرائيل رغماً عن ارادته، اذ تدفقت الى اراضيه بتشجيع من اطراف اقليمية ومحلية منظمات فلسطينية مسلحة فرضت نفسها بقوة الأمر الواقع واضطرته الى توقيع اتفاق القاهرة الذي سلم بموجبه السيادة على جزء من جنوبه الى منظمة التحرير الفلسطينية. وجاءت حرب العام 1973 لتكرس رسمياً الانقسام العربي بين محوري الاعتدال والمواجهة، وتضع لبنان في مهب التنابذ بينهما. ولم تلبث محاولات بعض القوى اللبنانية للحد من توسع العامل الفلسطيني والعربي في ادارة الشأن اللبناني وتصدي قوى لبنانية اخرى لها ان تحولت حرباً أهلية خرجت لاحقا، ودائما بتشجيع من الخارج، عن مسارها الاصلي لتغرق في تشعبات الوضع الطائفي، واتسمت بسعي كل من المعسكرين المسيحي والمسلم الى فرض معادلة داخلية تخدم مصالحه وتعطيه حصة اكبر في أي تركيبة جديدة للحكم. وجاء الغزو الاسرائيلي في 1982 لإبعاد المقاتلين الفلسطينيين عن الحدود، لكن اسرائيل لم تكتف بهدفها المعلن بل دخلت طرفاً في معادلة لبنان الداخلية وابقت قواتها المحتلة في جنوبه، مطلقة بذلك بعد فترة المقاومة الوطنية ضد الاحتلال، قبل ان ترثها المقاومة الاسلامية التي احتكرها «حزب الله» لاحقاً بهدف مزدوج هو تحرير الأرض والإمساك بقرار الطائفة الشيعية. وبعد خروج المحتل الاسرائيلي في العام الفين، استمرت اطراف لبنانية وعربية واقليمية تطالب بمزارع شبعا وتلال كفرشوبا وبالأسرى اللبنانيين والعرب في سجون الاحتلال. وجاءت حرب صيف 2006 لتحل جزءاً من المشكلة وتترك الجزء الآخر معلقاً وفق معادلة رعب متبادل: الصواريخ مقابل القصف الواسع والمدمر والخسائر البشرية والمادية الفادحة. واليوم تلوح بوادر مشجعة على طريق السلام في المنطقة. وباستثناء تعنت اسرائيل التي تزعجها المرونة المستجدة بين الولاياتالمتحدة، راعية السلام والحرب، وبين كل من سورية وايران، تبدو الدول العربية، وبينها لبنان، متشجعة بالتغيير الحاصل في المقاربة الاميركية الجديدة المستندة الى مبادرة السلام العربية، والتي انعكست «هدنة» بين المحاور بانتظار تبلور خطة واشنطن لتحقيق الاستقرار في المنطقة. ولعل «الجمود» المسجل على الجبهة بعد انتشار الجيش اللبناني وقوات الاممالمتحدة على الحدود، والذي صمد امام «امتحان غزة»، يدفع في اتجاه قبول الاقتراح الاميركي بإحياء اتفاق الهدنة وسيلة لحل المشكلات التي لا تزال قائمة مع الاحتلال الاسرائيلي مثل مزارع شبعا وبلدة الغجر وسواها، طالما ان حلها بوسائل اخرى غير مضمون. ومن شأن القبول بالاقتراح الاميركي ان يكرس التوجه نحو التهدئة الذي عبرت عنه مختلف الاطراف اللبنانية بعد الانتخابات البرلمانية ورغبتها في تشكيل حكومة وحدة وطنية تطلق عجلة الاصلاح الداخلي، كما ان من شأنه الاسهام في تطبيع العلاقات بين لبنان وجواره العربي، بحيث لا تعود دمشق مثلا تربط موقفها من الحكومة اللبنانية العتيدة بموقف هذه من سلاح «حزب الله» الذي لن يبقى «حاجة ضرورية».