يهتم عدد من الكتاب والمثقفين بصورتهم في الإعلام، ويشددون على حضورهم في الوسائل الإعلامية المختلفة. لكن الأصل في الأشياء هو أن يقدم الإبداع نفسه؛ أن يكون بمقدور ذلك الإبداع أن يلفت انتباهنا ويجعلنا ندهش ونشعر بالانسحار، فتنسال عبارات الإعجاب من أفواهنا. هكذا تعبر الأعمال الإبداعية الكبيرة الزمن، وتتغلب على الجغرافيا وحواجز اللغات، وتنتقل من بلد إلى بلد، ومن شخص إلى شخص. وهكذا مثلاً يستقر أمرؤ القيس وطرفة بن العبد والمتنبي وأبو العلاء المعري وأحمد شوقي وحافظ إبراهيم ومحمد مهدي الجواهري ونجيب محفوظ وبدر شاكر السياب وصلاح عبدالصبور وأمل دنقل وأدونيس ومحمد الماغوط ومحمود درويش... في قوائم الخالدين. ومن هنا يعبر هوميروس وفيرجيل وسيرفانتيس وشكسبير وفلوبير وتشارلز ديكنز ولوركا وبابلو نيرودا وغابرييل غارسيا ماركيز وماريو فارغاس يوسا، إلى أفئدة القراء في فضاء الزمان والمكان الواسع الفسيح الممتد إلى ما لا نهاية. صحيح أن الإعلام ضروري لكي نتعرف على المبدعين، ونلتفت إلى قاماتهم الإبداعية الخلاقة. لكن الإعلام ليس بداية الخيط بل هو نهايته، على خلاف ما يفهم بعض المثقفين، خصوصاً العرب منهم الذين يقضون سحابة نهارهم وهزيع ليلهم في تلميع ذواتهم، والحديث عن إنجازاتهم الثقافية، ومبلغ ما وصلوا إليه من شهرة في جنبات الأرض الأربع! بعض هؤلاء لا يكل ولا يمل من توزيع أخباره، وأخبار سفره وكتبه، على صفحات الصحف والمجلات، وعبر أثير الإذاعة وعلى شاشات المحطات التلفزيونية، الأرضية منها والفضائية؛ فهو بذلك يشبه وكالات الأنباء في القدرة الجبارة على الوصول إلى القراء والمستمعين والمشاهدين. إنك تجد أخبار المثقفين وصورهم التي يوزعون فيها الابتسامات، أو التكشيرات لا فرق، في كل مكان، ما يجعلك تشيح ببصرك وتترحم على الكتّاب الكبار الذين تبحث لهم عن صورة على الشبكة العنكبوتية السابحة على الشاشات فلا تجد إلا واحدة صغيرة في حجم إبهام اليد! الأنكى أن هؤلاء وجدوا أخيراً في الشبكة العنكبوتية فضاء شاسعاً يتحركون فيه؛ فهم يحتفظون في أجهزة حاسوبهم بمئات وربما آلاف العناوين الألكترونية، التي تعود إلى أشخاص وصحف ومجلات وإذاعات ومحطات تلفزيونية، يرسلون إليها الخبر نفسه في لحظة لا تزيد عن ثانية. وهم بذلك يستطيعون نقل أخبارهم وصورهم إلى عدد لا يحصى من الناس في زمن استثنائي. إنهم يطلون عليك من كل حدب وصوب، وصورهم تملأ الشاشات مثلهم مثل رجال و (نساء) السياسة والسينما والتلفزيون. لكن الفرق بينهم وبين العاملين في الفن والسياسة ان الإعلام يسعى وراء أولئك فيما يسعى مثقفونا وراء الإعلام لاهثين ممرغين بكراماتهم وماء وجوههم التراب. هذا النوع من المثقفين، للأسف، يصرف معظم وقته في البحث عن أضواء الشهرة، رأسه مملوء ببريق الضوء الوهمي، وعيناه مصوبتان باتجاه الكاميرات ظناً منه أن الإعلام يصنع مبدعين، ويرسخ مكانة الكاتب ويحميه من آفة النسيان! إنهم يبحثون عن الخلود، لكنه، وللحقيقة، خلود زائف مستحيل، كما أن بريق الضوء الخاطف سرعان ما يتلاشى ويغيب. وقد أثبت تاريخ الأدب أن ثمة كتاباً، حمل شهرتهم القرب من سلطة الحزب، أو الدولة أو المؤسسة أو الإعلام، غيبهم النسيان بعد غياب الرافعات غير الثقافية التي جعلتهم موضع الاهتمام؛ فيما حفظ الزمان ذكر كتاب ومبدعين كبار عاشوا في الظل أعواماً طويلة. المبدع الكبير، الذي يشتغل على موهبته وطاقاته الخلاقة، لا يحتاج الذهاب إلى الإعلام في كل لحظة، لأن ضوء إبداعه يجذب الإعلام والشهرة باتجاهه، حتى ولو كان ذلك بعد حين. المبدع الكبير ينأى بنفسه في معظم الأحيان عن ضجيج الشهرة التي تشوش على المبدع، وتصرفه عن الاهتمام بمشروعه الثقافي الخلاق، وتجعله يهتم بسفاسف الأمور وغبار الظهور الزائف الزائل الذي ستذروه الرياح، ولو بعد حين. وفي العادة فإن الأشخاص الخلاقين يتنحون جانباً ليمر صغار الكتبة والمثقفين الذين يركضون وراء الشهرة؛ إنهم يغيبون في عالم الصمت والعزلة حيث يتخلق الإبداع على مهل، وحيث تولد الأعمال الأدبية الكبيرة. لنتشبّه بالصامتين ونترك المسرح لأصحاب الأوهام الزائلة بشهرة آفلة.