لم يعد الأكراد بعد اجتياح العراق وبعد انحسار النظام عن شمال سورية، لقمة سائغة، لا في حلق إيران ولا في حلق تركيا. فمنذ أواخر القرن الماضي، سلم النظام السوري عبدالله أوجلان إلى تركيا، ظناً منه أنه بذلك يستريح من شوكة في حلقه. غير أن تركيا غرزت شوكة الأكراد مجدداً في ظهر سورية، فأصابت بذلك جهازها العصبي في الشمال خلف الفرات والجزيرة الفراتية، ولم تعد أنقرة قادرة على الحركة هناك، خصوصاً بعد تعاظم دورها مع الربيع السوري في عام 2011. كذلك، لم يستطع النظام العراقي الذي أرساه الأميركيون بعد تسليمهم بدور إيران فيه، أن يجعل الأكراد يطمئنون إلى غدهم في كنفه. فسارعوا إلى «النأي بالنفس» عن «النظام العراقي - الإيراني المشبوه»، فاستقلوا بأربيل والسليمانية وكركوك وجميع الحقول النفطية ومساقط الأنهر المائية وحصون الجبال الاستراتيجية، ولو ندّت عنهم «بعشيقة»، فوقعت عشيقة الأتراك في حضن معسكر تركيا هناك. وتحاول الأخيرة أن تدجّن الأكراد وتجعلهم يدخلون في خدمتها على حدودها الطويلة مع سورية، بعدما فتحت بواباتها للإسلاميين والمعارضين الآخرين من الجيش الحر وغيره من الفصائل المسلّحة السورية، كي يغرزوا فيها ما صنع الحداد. وها هي اليوم تجد نفسها عاجزة عن جعل الأكراد يصطفّون خلفها، بعدما جعلت منهم الثورة السورية «رقماً صعباً» بعد معارك كوباني/ عين عرب وعفرين وتلعفر والجزيرة الفراتية وصولاً إلى منبج وباب الهوا. وهي تحسب لذلك ألف حساب. وربما تهدد وتتوعد، وربما تنزلق إلى حرب، خصوصاً أن «السياسة الأميركية - الكردية» في شمال سورية غير نزيهة. بل هي ذات أطماع بالحقول وبالحصون وبالقواعد العسكرية والأذرع الحربية والاستراتيجية. هاجس تركيا اليومي، هو بروز حلم الدولة الكردية المستقلة على الحدود مع سورية. ولا تنظر تركيا إلى هذه المسألة على أنها خطر خارجي وحسب، وإنما تراها تمثل الخطر الداخلي بعينه. ولهذا تزعزع فكرة الإدارة الكردية الذاتية في شمال سورية استقرار مناطق وجود الأكراد في تركيا نفسها. وربما لهذا السبب أجهضت أنقرة عملية السلام في سورية، غير أن ذلك لم يطوع الأكراد، بل أمعنوا في عسكرة نزاعهم مع تركيا، وغدوا في مواجهتها بالاستناد إلى السياسات الأميركية الجارية هناك رقماً صعباً. تثير «وحدات حماية الشعب» الكردية مدعومة من أميركا، سخط تركيا. غير أن معالجتها تتجاوز الإقليم إلى ما وراءه من دول عظمى، ذات غالبية شعبية تتعاطف مع القضية الكردية. فلا أميركا ولا روسيا ولا أوروبا، تستطيع بعد الآن، أن تعدم القضية الكردية أو فكرة الدولة الكردية الطامحة الى المحافل الدولية. وتزعم روسيا أنها تعمل على خط التهدئة وخفض التصعيد في الشمال السوري، وتعبيد الطريق أمام اتفاق سلام بين النظام ومجموعات الثوار. غير أن هذه الاتفاقات سرعان ما تلقى مصير اتفاقات سابقة، وافقت عليها روسياوتركيا والنظام، ثم انفضت عراها وانفرط عقدها، لأن عقدة الأكراد في الشمال السوري، لم تحل بعد. بل هي تمثل الرقم الأصعب في المعادلات. وعبثاً تضلل السياسة التركية الاحتوائية للإدارة الذاتية الكردية، عمليات السلام والحرب على حدودها. إذ لم يعد مقبولاً عند الأكراد أي شكل من أشكال المساومة على قضيتهم، بل أصبحوا محكومين بالاستقلال الذاتي لدى شعوبهم وأحزابهم في جميع المناطق التي يوجدون فيها، والتي تقع على حدود أربع دول كبرى ذات أنظمة شمولية أو شبه شمولية هي: إيرانوالعراق وسورية وتركيا. وربما خسرت الولاياتالمتحدة مجدداً أمام روسيا في سورية، غير أن نظام الأسد الذي يستميت في بسط ألويته في الشمال السوري أيضاً، ماضٍ في سياسته لاستعادة سورية كاملة ولو بالقوة، مستنداً إلى سلاح الجو الروسي ولوجستيته وأجهزته المحدثة. غير أن الأكراد لن ينصاعوا إلى بيت الطاعة عند النظام مجدداً، مهما كانت كلفة ذلك باهظة عليهم. وحاولت تركيا المراهنة على رحيل الأسد، الإمساك بالورقة الكردية من بعده. وعندما شعرت أنها تغامر بخسارة كاسحة، انعطفت إلى روسيا، وغدت تدور في فلكها سعياً إلى تقليل أضرارها. وهذا ما أضر بها عند الأميركيين. وتحاول روسيا أن تكون «وسيطاً نزيهاً» بين الأكراد من جهة وإيرانوتركيا من جهة أخرى. غير أن الإيرانيين لا يجدون بديلاً عن النظام حتّى الآن ولا عن روسيا، ولا هم في وارد التنازل عن أي شبر من سورية، خصوصاً في المناطق الشمالية، حيث أراضي الأكراد ومناطقهم التاريخيّة المعهودة. والأكراد يدركون ذلك بقوة خبرتهم في التاريخ والجغرافيا. ولهذا يتحصّنون وراء قضيتهم بقوة ولا يساومون عليها، لا مع الروس ولا مع الإيرانيين. ولعل ذلك هو سر تحققهم سياسياً واستراتيجياً كرقم صعب، لا يمكن تجاهله في معادلات الحرب والسلام الجارية بقوة في سورية، خصوصاً في العامين الأخيرين 2016 و2017. ويأمل الأكراد بأن يضغط الكرملين على الإيرانيين لينسحبوا من سورية، أو لحملهم على أقل تقدير على عدم الانتشار في الشمال ومساندة النظام هناك. كذلك، هم يأملون بأن يضغط على الأتراك ليقبلوا بالإدارة الكردية الذاتية على حدودهم مع سورية. غير أن اهتمامات السياسة الروسية في مكان آخر، هو جعل الأميركيين يغادرون سورية الشمالية بالكامل، ولا يبقون على أي نوع من أنواع المعسكرات لهم هناك. وتظل السياسة الروسية كما السياسة الأميركية، نصاً غامضاً ملتبساً على الجميع، الإيرانيين والأتراك، ومعهم الأكراد الذين غدوا بعد طول حرب في العراق وسورية الرقم الصعب، خصوصاً وهو يغور إلى القعر في نص معادلات سياسية أميركية - روسية مزدوجة، نص ملتبس بامتياز. * أستاذ في الجامعة اللبنانية