-1- إنّها الضّفّةُ الشرقيةُ من البحر الأبيض المتوسِّط. لا تزال، منذ نشوئها، ميادينَ حروبٍ بين الهجرة والعودة، بين أوديسيوس والمجهول، هنيبعل وأهوائه، ديوجين وبرميله، وبين الأبجدية وكتبها. الحربُ المتواصلة في ثيابها الأخيرة: سكاكين ترقص وهي تَذبَح عِجلةً يوسفيّةً، كانت تتهيّأ لكي تقفز من فوق سورٍ هائلٍ يطوِّق أصدقاءها الخرافَ الضالّة. في لَيْلٍ تنسجه أجنحةُ خفّاشاتٍ وأعاصيرُ من كلِّ نوعٍ ومن كلّ جانب. وكانت هذه كلُّها تعويذات بشرٍ يموتون، ناسين كلَّ شيءٍ حتّى اللغة التي ينطقون بها. وها هي الحملةُ العسكريّةُ الأخيرة: «غصنُ الزّيتون»– محمولاً على الصواريخ والقنابل والدّبّابات والقاذفات في أعراس انفجاراتٍ وقبورٍ وأشلاء وانهيارات. ولا ننسَ أنّ «غصنَ الزّيتون» هذا ليس إلّا تنّوراً هو في الوقت نفسِه نبعٌ سيميائيّ سماويٌّ يصبّ في القاهرة وفي دمشق وفي بغداد في آنٍ معاً، وفي تموُّجٍ واحد– وربّما فاض، لكي يتربّص بمياهٍ أخرى لا تزال حليباً في أثداء الحقول الفسيحة المُجاوِرة. والأعلى هنا هو، في الوقت نفسه، الأسفل. والخارج هنا هو، في الوقت نفسه، الدّاخل. لكن، ما أعجبَ هذا «الغصن»! إنّه في آنٍ واحد وفي اللحظة نفسها «خرقةٌ» و «ياقوتٌ جمريٌّ». لا بدّ من أن تنزلَ، يا قمرَ الغدِ العربيّ، في جوف النّمرِ الآتي من فلَواتِ الميسيسيبّي! لا بدّ، لا بدّ! نعم! اسمٌ على مُسَمّى! مسكينٌ هذا الغصن! بورخيس! أين أنت الآن؟ نحتاج إليكَ لكي تكتب قصيدةً ثانيةً عن «آريوست والعرَب»! -2 – إنّها الضّفّةُ الشرقيّةُ من البحر الأبيض المتوسّط! «لا أحد يستطيع أن يكتب كتاباً. فلا بدّ، قبل وجود الكتاب، من وجود شرقٍ وغرب– من قرونٍ وأسلحة، لا بدّ كذلك من صَدْع البَحْر ومن رأْبِ صدوعه!»– يقول بورخيس في قصيدته (الأولى) عن آريوست والعرب. -3 – إنّها الضّفّةُ الشّرقيّةُ من البحر الأبيض المتوسّط! يمكن الإنسان فيها أن يكون واقفاً وجالساً، مسافِراً وعائداً في اللحظة نفسِها. يمكن أيضاً أن يكون القائلَ والقارئَ والجمهورَ والماضي والحاضر والمستقبل، ما كان وما يكون في آنٍ معاً وفي اللحظة نفسها. يمكن أن يكون «قائماً بذاته»، وقائماً «بالمعيّةِ والتَّبَعيّة» في آنٍ معاً، وفي اللحظة نفسها. -4 – إنّها الضّفّةُ الشّرقيّة من البحر الأبيض المتوسِّط! للعمر فيها حدودُه الفيزيائيّة، كما هو الشّأن على ضفاف البحار الأخرى. لكنّها تتميَّز وتنفرد. ذلك أنّ للعمر فيها، خلافاً لغيرها، لعبه الكيميائيّ: تحويل الشّيخوخة إلى طفولاتٍ، لا بين يدَي الأرض في البيوت والطّرُق والمَلاعِب، بل في اليد، والرّأس، في المخيِّلة والعقل، في اللعب والترصُّن، في تدجين المُصادَفات وفي ابتكار الرّغبات والشّهوات. وللفضاء في هذه الضّفّة، وهو امتيازٌ آخر، تجويفاتٌ تتّسِع لأحجامٍ لا تقدر أن ترسمها إلّا مخَيِّلةٌ وُلِدَت في عالَمٍ سماويٍّ مُفرَد، تجويفاتٌ شبه خفِيّةٍ عن البصَر، شبه ملوَّنةٍ في البَصيرة، تأتي وتروح، تصعد وتهبط، تتأرجح وتهدأ، أفكارٌ عجافٌ مُسَمَّنةٌ، نقائضُ متطابقةٌ، نافرةٌ غائرةٌ عابرةٌ حاضرةٌ، رخوَةٌ صلبةٌ، مستقيمةٌ متعرِّجةٌ، أفكارٌ تتنبَّأ تحضنها أفكارٌ جائعةٌ تُمارِس التَّشرُّد والتَّسوُّل. يا بورخيس الحلم، ادخل، ادخل، في جَوف المَوْجة، أيُّها المركَبُ– الحِبْرُ. -5 – إنّها الضّفّة الشرقيّة من البحر الأبيض المتوسِّط! في أحشائها حَلَباتُ رقْصٍ للأفكار، للخواطر، للأحلام، للتوهُّمات. رقصٌ متناقِضٌ واحد! رقصٌ تُشارِكُ فيه الطّبيعةُ نفسها– ظلاماً وضياءً، ينابيعَ وأنهاراً، شجراً وعشباً، رعداً وصواعِق. والزّمنُ كلُّه يذوب في لحظة العمل! إنّها الضّفّة الشرقيّةُ من المتوسِّط– الرّأسُ في عناقٍ دائمٍ مع الرّيح، في ما وراء كلّ أزمة، وفي ما وراء كلّ حكمة. الرّأس يتمدّد، يتوسّع، يشرح وينشرح. لا يقدر أن يستيقظ إلّا مُنطَرحاً في أحضان المُخَيّلة. أسألُكَ، بورخيس: أهي التي سرقت، إذاً، أهدابَكَ وأهدابي؟ ألهذا تؤثِر أهدابُنا أن تبقى أسيرةَ النّوم؟ ألهذا لا تريد أن ترى أيّاً مِنّا إلّا محمولاً على مائها ذلك الذي لا يحمل إلّا نعشاً واحِداً وحيداً اسمه الزّبَد؟ ولا حاجةَ، آنذاك، لمَن يريد أن يستأنف فعل الخليقة الأول. لا حاجة في الأخصّ، لمن يطمح للمشاركة في السِّباق الذي تُقيمه الكواكب للقبض على المستحيل. -6 – إنّها الضّفّةُ الشرقيّةُ من البحر الأبيض المتوسِّط، الضفّة التي قيل عنها يوماً إنّها البحرُ اليونانيّ، الفينيقيُّ، العربيّ. الضفّة التي تعيش الآن في الزّائل، الموقَّت، العابر، ابْنِ يوْمِه– خِلافاً لتاريخِها، الضفّة التي صار الزيُّ هويّتَها وسلطتَها وسياستَها! والوَيْلُ للْعُصاة! ليس لهم إلّا المَعازِل والهوامِش والمتاهات. -7 – إنّها الضّفّةُ الشّرقيّةُ من البحر الأبيض المتوسِّط. بدلاً من السّلام، العنفُ والدّم بدلاً من الحِراك المُتَواصِل تأسيساً لثقافة «الحقوق»، حقوق الإنسان، يتمّ التّأسيس المتواصِل لثقافة العدوان، بدلاً من «العقل»، «النّقل»، بدلاً من «المساواة والعدالة»، الظّلم والطّغيان، والتّراتبيّة السّلطَويّة والقَبَليّة، بدلاً من تلاحُم «التنوُّع»، و «التعدُّد»، شَتات» الوحدة» و «التوحيد»، و «الوحْدَنَة»، بدَلاً من الإنسان، الشّيء. إنّها الضفّةُ الشّرقيّة من البحر الأبيض المتوسّط. لا شغَفَ إلّا بالسّماء والخلود، لا عملَ إلّا العِياذُ بالغَيب اللانهائيّ، من الحريّة– هذه الأكذوبة الكبرى، ومن العدالة والمساواة، بوصفهما ذروة هذه الأكاذيب الكبرى! ومن الاستقلال خصوصاً، بوصفه مروقاً وتجديفاً. إنّها ضِفّةُ العبوديّات والتّبَعيّات من كلّ نوع. إنّها الضفّةُ الشرقيّةُ من البحر الأبيض المتوسّط، خريطة سيمياء وعرّافين وسَحَرَة، ( لا «شرقيّة لا غربيّة») عمودُ نارٍ قدَماه في كوكَبٍ يدورُ حولَ نفسه، ورأسُه في بحيرةٍ موحِلَةٍ تسَعُ ضفافُها السّماءَ والأرض. يا مِسلّةَ حمورابي، علِّمي هذه الضفّةَ من جديدٍ أنّ الحجرَ يحتاج، هو أيضاً، إلى أن يُسْقى بماء الحرّيّة! وأنتَ، أيُّها التّاريخ– على هذه الضّفّة الحافَّة، هل حُكِم عليك حقّاً، باسم الأبديّة، ألاّ تخرُجَ إلّا من بين شَفَتَيْ وَحشٍ، وألّا تُكْتَبَ إلّا بدماء الأطفال؟