خلال الأشهر المقبلة سوف تجرى الانتخابات العامة في مصر وتونس وربما في فلسطين على الأقل، هذا فضلاً عن الانتخابات التركية التي ستبدأ خلال الأيام العشرة المقبلة. إذا صحت التوقعات التي تصدر عن مصادر إقليمية ودولية متنوعة، فان النتائج التي ستسفر عنها الانتخابات ستكون واحداً من أهم الأحداث التي طرأت على المنطقتين العربية والشرق أوسطية منذ سقوط الامبراطورية العثمانية وحتى تاريخنا هذا. فخلال هذه الفترة المنصرمة، استوحت أكثر النخب والأحزاب والحركات الحاكمة في المنطقتين (الكمالية، الناصرية، البعث، جبهة التحرير الجزائرية، الاستقلال في المغرب، الدستوري في تونس الخ...) مبادئ الحكم من الفكرة القومية مع تطعيمها بقيم إسلامية. أما في الفترة المقبلة فان أكثر التوقعات ترجح أن تفوز حركات وأحزاب تستلهم الدين الإسلامي، مثل «الإخوان المسلمين» في مصر وحركة «النهضة» في تونس و «حماس» في فلسطين بأكثرية المقاعد في المجالس النيابية المقبلة، وأن يعود حزب «العدالة والتنمية» الى البرلمان التركي لكي يشغل أكثرية مقاعده. كيف تؤثر هذه التطورات المرجّحة على التحول الديموقراطي في المنطقة؟ هل تعرقل هذا التحول أم تعمّقه وتسرّعه؟ هل يدخل الإسلاميون الحكم ومعهم الاستعداد، كل الاستعداد، للالتزام بما يقرره المواطنون في الانتخابات؟ هذه الأسئلة تتردد في المنطقة العربية وخارجها حيث يرقب أصحاب القرار بدقة مواقف الأحزاب والحركات الإسلامية في إطار تتبع الأحداث والمتغيرات العربية عموماً. تتباين الاجوبة على هذه الاسئلة وتتفاوت ردود الفعل على التطورات المرتقبة في المنطقة العربية. وينقسم أصحاب هذه التوقعات الى فريقين: واحد يقول إن صعود الإسلام السياسي في الدول العربية وتركيا وإيران سوف يؤثر سلباً على عملية الدمقرطة في المنطقة. وفريق آخر يؤكد ويعد بأن صعود الإسلاميين المعتدلين سيسرّع هذه العملية ما دامت أحزابهم أبعد عن الفساد وأكثر استعداداً لتحسين أداء الحكومات العربية من النخب السياسية الحاكمة. في مواجه صيحات التحذير التي أطلقها ممثلو الفريق الأول، يؤكد قادة من الفريق الثاني مثل الشيخ راشد الغنوشي، المفكر الإسلامي البارز وزعيم حركة «النهضة» التونسية، إنه لا تعارض بين الدين الإسلامي والديموقراطية طالما أن الإسلام يقبل بكافة ما توصلت إليه الديموقراطية من ترتيبات حسنة لإدارة الحكم. وأعطى الشيخ الغنوشي أمثلة على هذه الترتيبات بالإشارة الى اعتماد «الانتخابات الدورية النزيهة التي يشترك فيها كل المواطنين الراشدين، وتتنافس الأحزاب والشخصيات، والفصل بين السلطات وتوازنها، وحرية تأسيس الصحف والأحزاب والجمعيات، والاعتراف بحقوق متساوية لكل المواطنين، وبحقوق الأقليات». وتتكرر مثل هذه الإعلانات على لسان زعماء الأحزاب والجماعات الإسلامية الرئيسية في مصر وفلسطين واليمن وعدد من الدول العربية الأخرى. ويرد الكثيرون من الإسلاميين وغير الإسلاميين على الذين يقولون بحتمية التناقض بين الإسلام والديموقراطية بالإشارة الى تجربة حزب «العدالة والتنمية» في تركيا والى تحولها الى نموذج تقتدي به هذه الحركات وبخاصة جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر. بالفعل، إن تجربة «العدالة والتنمية» في تركيا تقدم رداً عملياً على نظرية التعارض المطلق بين الإسلام والديموقراطية. وفي عالمنا اليوم يزداد عدد الذين يعتبرون هذا الحزب الخلاق فاعلاً رئيسياً في ترسيخ الديموقراطية في تركيا. ولكن هذا لا يعني أن هذه النظرة الأخيرة تنسحب بالضرورة على الأحزاب الإسلامية الرئيسية في الدول العربية. هنا يشدد معنيون بالتطور الديموقراطي في المنطقتين العربية والأوسطية على أن ثمة فروقات مهمة بين التجارب العربية من جهة، والتجربة التركية من جهة أخرى. هذه الفروقات لا تطاول الإسلاميين العرب والأتراك وحدهم، بل تطاول الحياة العامة بسائر رموزها وفاعليها ومرافقها في تركيا والبلاد العربية. ويلقي أحمد داود أوغلو، وزير الخارجية التركي وأحد المنظرين البارزين لحزب «العدالة والتنمية»، ضوءاً على هذه الفوارق إذ يلاحظ في كتابه «إن التحول الديناميكي للثقافة السياسية الذي اكتسب اندفاعة قوية في تركيا في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، يختلف عن الوضع في دول الشرق الأوسط الأخرى». استطراداً يقول أوغلو أن «للانتخابات التركية معاني مختلفة عن تلك التي قد تجرى في بعض الدول الشرق الأوسط الأخرى». ويجسد هذا التباين الفارق الجوهري الأهم حيث «... إن الثقافة السياسية في دول الشرق الأوسط محصورة بين الأنظمة الملكية التي تعكس الثقافة التقليدية وبين الأنظمة الجمهورية التي لا تحتوي على مساحات ديموقراطية كافية». وتكمن جذور هذه الفوارق في معطيات موضوعية ومجتمعية بين التجربة التركية والتجارب العربية في ميادين ومجالات مختلفة، وبخاصة في التاريخ والجغرافيا والعلاقات الدولية على الأقل. وتلعب هذه العلاقات دوراً رئيسياً في بلورة مفاهيم الانتماء ومضمون الثقافة السياسية للبلدان وتكييف مصالح أهلها ونخبها السياسية. لقد لعبت المقومات الجغرافية والتاريخية والعلاقات الخارجية دوراً بالغ الأهمية في التأثير على نظرة الأتراك والعرب الى الديموقراطية والى نظم الحكم ونماذجه. لقد تضافر العاملان الجغرافي والتاريخي على ترسيخ شعور الأتراك بأنهم أوروبيون مثلما هم آسيويون. كانت الامبراطورية العثمانية تبسط هيمنتها على أراض أوروبية، مثلما كانت تمتد الى عمق الأراضي الآسيوية. ويغلب هذا الشعور بالانتماء الى القارة الأوروبية على جميع التيارات والأحزاب التركية، الى درجة أن رئيس الحكومة أردوغان صرح مرة أن تركيا «أوروبية وليست إسلامية أو شرقية». وعلى رغم تهرب الاتحاد الأوروبي من قبول انضمام تركيا الى الاتحاد فان إصرار الحكومة التركية على دخول الاتحاد لا يزال على حاله وهو يعكس المناخ السائد لدى الرأي العام التركي. وفي الآونة الأخيرة برز تباين بين أنقرة والحلف الأطلسي حول الثورة في ليبيا، إلا أن تركيا لا تزال ركيزة أساسية للحلف كما أنها عضو في كافة المنظمات القارية الأوروبية. في ظل هذه العلاقات تتداخل مسألة الانضمام الى الاتحاد الأوروبي مع توطيد الديموقراطية في تركيا. وعلى رغم الطابع التعجيزي ل «معايير كوبنهاغن» للإصلاح الديموقراطي التي حددها الأوروبيون كشرط لانضمام تركيا الى الاتحاد الأوروبي، وعلى رغم أن بعض القوى السياسية في تركيا اعتبر المعايير انتقاصاً من الهوية الوطنية، إلا أن حزب «العدالة والتنمية» لم يجد حرجاً في التمسك بها. فهذه المعايير هي «تركية» مثلما هي أوروبية. أكثر من ذلك فلقد جرى تتريك معايير كوبنهاغن عندما أعلن أردوغان أنه وحزبه على استعداد لتطبيقها حتى ولو أقفلت أبواب الاتحاد كليا أمام تركيا، وأنه من المستطاع، استطراداً، دمج هذه المعايير ضمن برنامج الإصلاح التركي الشامل الذي يحققه حزب «العدالة والتنمية». بالمقارنة مع نظرة الأتراك الى أنفسهم كأوروبيين، ومن ثم كشركاء أصيلين في بناء الديموقراطية القارية والعالمية، نجد أن التاريخ والجغرافيا لا يسعفان العرب ولا الإسلاميين العرب في بلورة مقاربة موازية تجاه مسألة العلاقة مع أوروبا واستطراداً الموقف من المعايير الديموقراطية. ففي التاريخ القريب أن أوروبا هي التي بسطت هيمنتها على الدول العربية، ولا تزال القضية الفلسطينية تثير في النفس العربية النقمة على الجيران الأوروبيين. في ظل هذه المعطيات، فان الحكمة السياسية، كما تراها الأحزاب العربية الواسعة الانتشار، تقضي بالوقوف في وجه التحدي الأوروبي وليس في طلب القربى من أوروبا كما يفعل الحزب التركي الحاكم. تجد الأحزاب والحركات السياسية التركية، إسلامية أو غير إسلامية، في معطيات التاريخ والجغرافيا والعلاقات الخارجية ما يساعدها على توطيد الديموقراطية في تركيا. بالمقابل فان الأحزاب والقيادات السياسية العربية، كثيرا ما تستنجد بالذاكرة التاريخية وبالواقع الجغرافي والعلاقات الخارجية وبخاصة مع دول الغرب لكي تبرر المواقف السلبية تجاه الديموقراطية وتبرير نزعات الاستبداد التي استفحلت في المنطقة. وتستقي هذه الممارسة مشروعيتها من الحجة القديمة والجاهزة التي تقول بأن الديموقراطية «غريبة عن مجتمعاتنا ومناقضة لقيمنا». هذه النظرية هي واحدة من النظريات المتعددة التي تروّج لخدمة نظم ومشاريع الاستبداد في المنطقة، وهي تشكل ركيزة من ركائز الثقافة السياسية التي أشار إليها أوغلو. هذه الثقافة ليست منتشرة بين الإسلاميين فحسب، بل بين أحزاب وجماعات عربية كثيرة غير إسلامية. إذا أرادت هذه الأحزاب الأخيرة أن تضمن مستقبل الديموقراطية في المرحلة المقبلة وأن تضمن حريتها وحقها في التعبير والمشاركة العامة، فمن المنطقي أن تبدأ هي نفسها بالانحياز الأكيد الى الديموقراطية وبالعمل من أجل توطيدها بالتعاون مع الإسلاميين على ترسيخ النظام الديموقراطي وإغلاق الأبواب أمام تسلل المعادين له من جديد الى ميادين التحرير وساحات الحرية العربية. * كاتب لبناني