استحوذت الأخلاق والفضيلة على ألباب الفلاسفة والأدباء منذ البارقة الأولى للحضارة الإنسانيّة، شاملة النشاطات البشريّة كلّها. ولم تكن المهن سوى مساحة أخرى لتحقّق البعد الأخلاقي في الوجود الإنساني الحضاري. وهناك عبارة شهيرة للفيلسوف الفرنسى الراحل آلبير كامو يقول فيها «الإنسان بلا أخلاق ما هو إلاّ وحش كاسر يعبث فى البريّة». وثمة عبارة للمفكر الإنكليزي دوغلاس آدامز تربط العمل الحديث بالأخلاق بصورة مباشرة: «الخدمة الجيدة مغلفة دائماً بالاخلاص والأمانة». وفي السياق عينه، لخّص البروفسور الأميركي وليام منينغ مفاتيح النجاح فى ستة فضائل هي «الإخلاص والنزاهة والتواضع والمجاملة والحكمة والعطاء». وفي مفارقة جديرة بتأمّلات شتّى، ترافق توسّع ثورة المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة، مع سيول من الفضائح الأخلاقيّة. ودفع الأمر الشركات إلى الاستثمار فى بناء سياج من الفضيلة يحافظ على سمعتها، ويؤمن سلامة نشاطاتها، ويحمى موظفيها أثناء العمل فى البيئة الرقميّة التي تتسم بأنها متغيّرة ومعقّدة ومفعمة بالإغراءات والضغوط، وتتسم بتنوع الثقافات والقوانين والألوان. وفي سياق مواز، تعالت أصوات كثيرة تدعو إلى تطعيم برامج التعليم بالفضائل والمسؤوليّة الاجتماعية، بهدف تجنّب إنتاج قوى عاملة تكون مصدر تهديد للشركات التي تحتضنهم! مال بلا ضوابط في إطار تلك الصورة، هزّت مجموعة من الجرائم الأخلاقيّة شركات أميركيّة وعالميّة كبرى تعمل في أسواق المال والخدمات ونُظُم التعليم وسواها. وقبل سنوات قليلة، تبيّن أنّ شركة «سوني» SONY العالميّة عمدت إلى زرع برامج خبيثة في أجهزتها ما مكّنها من استمرار السيطرة عليها بعد بيعها. وأدّت الفضيحة التي كشفها خبراء أميركيّون، إلى إرغام الشركة على دفع مبالغ ماليّة كبيرة للمتضرّرين. وعام 2010، تورط «فايسبوك»، وهو الموقع العملاق في شبكات التواصل الاجتماعي، في قضايا جرّته إلى القضاء مراراً. إذ تبيّن أنّ «فايسبوك» يتجسّس على جمهور مستخدميه، ويبيع بياناتهم الشخصيّة إلى شركات الدعاية والإعلان من دون الحصول على تصريح مسبّق من أصحاب تلك البيانات! ولم تسلم براءة الأطفال من ذلك النمط من الجرائم. وعام 2011، اتّضح أنّ شركة «ديزني» DISNEY الأميركيّة الشهيرة في عوالم أفلام الكرتون، تاجرت بمعلومات شخصيّة عن جمهورها الطفولي، من دون الحصول على موافقة من أولياء أمورهم. وفي فضيحة ما زالت أصداؤها تتردّد في أميركا وصولاً إلى أفلام هوليوود، استطاع المتموّل برنارد مادوف الاحتيال على مستثمرين أميركيين في بورصة «وول ستريت» على مدار سنوات طويلة. ومع تهاوي أسواق المال عام 2008، انكشف أمر مادوف بعد أن وصل عدد ضحاياه إلى قرابة 4800 مستثمر، وقدّرت المبالغ التي سطا عليها احتيالاً ب65 بليون دولار. وظهر فيلم هوليوودي عام 2017 عن تلك الفضيحة التي يشار إليها تقنيّاً باسم «مخطط بونزي» Ponzi Scheme، وكان عنوانه «ساحر الأكاذيب» Wizard of Lies (إخراج: باري ليفنسون، أداء روبرت دي نيرو). وبسبب الجشع أيضاً، أنشأ فريق المبيعات في بنك «ويلز فارغو» Wells Fargo الأميركي 2 مليون حساب وهمي، بهدف زيادة مؤشر مبيعات البنك. واكتشفت الفضيحة في 2017، وأنهيت بسببها خدمة 5200 موظف ودفع البنك غرامة مقدارها 2 بليون دولار. وطالت الفضائح صناعات تقليدية كالسيّارات. إذ اتّضح أنّ شركة «جنرال موتورز» General Motors تاجرت ببيانات زبائنها التي تجمعها من طريق خدمة «جي بي إس» GPS المثبتة في مركبات تلك الشركة! مأزق «أصحاب الياقات البيض» بصورة عامة، أصبح قطاع الأعمال سوقاً كبيرة لا أخلاق فيها، بل تتاجر بكل شيء مقابل المال أو الارتقاء الوظيفي. وأحياناً، تحدث تلك التجاوزات عندما يخلط الموظف بين قرارات صحيحة واخرى خاطئة، سواء بصورة متعمدة أو غير ذلك. ويحدث أن يقع في تلك الأفخاخ أصحاب أيادٍ نظيفة، خصوصاً بين جموع الموظفين العاملين في قطاع الخدمات الذي تعملق منذ ما بعد الحرب العالميّة الثانية، ويشار إلى العاملين فيه باسم «أصحاب الياقات البيضاء» white-collars. ويندرج ضمن أسباب تلك الكوارث، قلّة الوعي، وسوء التنشئة الاجتماعية، ورفقاء السوء، وعدم الاهتمام بعلوم الأخلاق (خصوصاً تلك المتعلقة بالعمل والمهن)، وإهمال الشركات مواثيق أخلاق المهنة وإرشاداتها ومعاييرها. وعندما تكون البنية الأخلاقيّة للفرد ضعيفة، يصبح لا مبالياً حيال المنظومة القيمية للعمل الذي يؤدّيه. وربما قاده ذلك إلى التورّط في استخدام هواتف الشركة وحواسيبها ومركباتها في مهمات تتصل بشؤونه الخاصة، وهو الفساد تعريفاً. وربما تسلّق آخر وظيفيّاً على حساب أفكار زملائه وجهودهم. وربما وجد أحدهم مبررات لتحيّزه التميّيزي على غرار أولويّة المصلحة الشخصيّة، أو تفضيل العرق والعشيرة ولون الجلد وسواها. وهناك معضلات أخلاقيّة تحتاج إلى قرارات صعبة، كتلك المتعلقة بالسعي إلى إيجاد توازن بين كفاءة المؤسّسة وإنتاجيتها من جهة، وسلامة العاملين من الجهة الأخرى. وتواجه شركات كثيرة صعوبة فى التوفيق بين احترام خصوصيّة الزبائن والموظفين، وبين حقّها فى جمع المعلومات اللازمة لتطوير خدماتها، ومراقبة سير العمل ومتابعة أداء موظفيها. وفي ذلك السياق، ربما ظهر سؤال عن قدرة قيم الأمانة والإخلاص على دفع العامل إلى إبلاغ مسؤوليه عن تجاوزات رفقائه فى العمل، وهو أمر يتصارع مع قيم أخلاقيّة تتصل بحقوق الزمالة التي تلزمه بالمحافظة على خصوصيّاتهم. الجامعات تلتقط خيط الاتجاه القيمي استناداً إلى الإدراك المتنامي لأهمية الأخلاق في عصر المعلوماتيّة والاتصالات المتطوّرة، تبدو عوالم الأكاديميا كأنها التقطت الخيط عينه. إذ لم تعد هيئات الإعتماد الدولي للجامعات تركز على مجرد النمو الفكري للطلاب والإنتاج العلمي لمعلميهم، بل أضحت أخلاق المهنة معياراً أساسيّاً لفرز الجامعات وترقيتها. وتندرج في قائمة تلك الهيئات، مؤسّستا «جمعية تطوير المدارس الجماعيّة للأعمال»Association to Advance Collegiate Schools of Business، و «لجنة الاتّصال بشأن التعليم الطبي»Liaison Committee on Medical Education. ويعمل كلاهما على مستوى عالمي. إذ نصحت «جمعية تطوير المدارس الجماعيّة للأعمال» كلياتها بتبني برامج تتخصّص في رفع رصيد الطلبة من القيم الأخلاقيّة. وتُشدّد أيضاً على أهمية الأخلاق في توجيه نشاطات الأعمال كلّها، بداية من شراء مستلزمات الإنتاج ومروراً بتطوير المنتج والتصنيع والعمليات الداخلية وأثناء حملات التسويق وانتهاءً بإدارة العلاقة مع الجمهور. وعلى المنوال نفسه، عمدت كليات الطب والتمريض إلى زيادة المساحة المخصّصة تقليديّاً لتدريس الأخلاق الطبية. ويهدف ذلك إلى حث الطلبة على تبني مبادئ أخلاقيّة، خصوصاً تلك التي تتعلّق بتقديم الرعاية الصحيّة للمرضى. وأصبح مألوفاً في كثير من الجامعات المرموقة، مناقشة أمثولات عمليّة عن قضايا أخلاقية معقدة، وشرح صعوبة إتّخاذ القرار حيالها. ينصح خبراء كثيرون بألا ينحصر تعليم الأخلاق على قاعات الدراسة، مشدّدين على أهمية اختيار أساتذة مؤهلين أخلاقياً ليكونوا مثالاً يحتذى به فى النزاهة والأمانة والشفافية والإخلاص والولاء. وهناك كليّات كبرى ك «مدرسة ثندربيرد للإدارة» (جامعة ولاية أريزونا) و «آيفي لإدارة الأعمال» (جامعة ويسترن- كندا)، تفرض على خريجيها أن يقسموا يميناً ملزمة عن أخلاق المهنة، كشرط للتخرج. ولحسن الحظ، يبدو رصيد مجتمعاتنا العربيّة كبيراً في رأس المال الأخلاقي، بأثر من قوة النزعة الدينيّة، وكثافة النسك، وترسّخ قيم السمعة والعادات والتقاليد في نسيج الأسرة والقبيلة. كذلك تستثمر بعض الحكومات العربيّة فى النزاهة وأخلاق المهنة كأحد روافد التنمية، بهدف زيادة المزايا التنافسيّة للقوى العاملة والشركات الوطنيّة. وفي مثل ملفت، ابتكرت حكومة المملكة العربيّة السعودية «مدوّنة قواعد السلوك الوظيفي وأخلاقيات الوظيفة العامة» لتكون مظلة أخلاقيّة للعاملين في الدولة كلّهم. وفي السياق ذاته، أنشأت «الهيئة الوطنيّة لمكافحة الفساد». وكذلك اعتمدت الجامعات السعودية عدداً من المقررات المتعلقة بالأخلاق الإسلاميّة، ضمن برامجها التعليميّة. ومن المستطاع تطويع تلك المقررات لرفع الجاهزية المهنيّة للطلاب والوفاء بمتطلبات الاعتماد الدولي حاضراً. كما يمكن تبني استراتيجية لتحقيق التكامل بين مواثيق النزاهة وأخلاق المهنة التي تتبناها الدولة وتظهر في خطب المساجد بالجامعات من جهة، والمقرّرات الأكاديميّة عن أخلاق المهن من جهة أخرى. والأرجح أن ذلك قمين بأن يساهم في تحقيق أهداف التعليم، وتعظيم العائد على الاستثمار في المرافق الروحيّة، وزيادة الميزة التنافسيّة للشركات الوطنية. * أكاديمي مصري في المعلوماتيّة ب «جامعة الملك فيصل».