تختبر قوى الثورة المضادة جملة «آفة حارتنا النسيان» الشهيرة، بمباركة ارتباك قانوني يشهده مسار العدالة المصرية، وحملة ترويع رهيبة عنوانها الانهيار الاقتصادي، وبمباركة تآمر إعلامي إقليمي ومصري، بغرض تركيع المواطن المصري أمام خيارات عودة الرئيس مبارك، لا العودة الجسدية التي هي في حال الاستحالة، بل عودة الروح لنظامه عبر الهروب من العدالة، من خلال الاعتذار ورد الأموال، وكفى المقتولين شر الحساب. خرافة المأزق الاقتصادي بالصرف من احتياطي النقد الأجنبي هي مسؤولية عجز المجلس العسكري المنوط به إدارة البلاد عن تقديم روشتة اقتصادية واضحة، يسميها البعض اقتصاد الحرب أو الثورات، بخاصة وهو يملك واقعياً وضع يده على الحساب الإجمالي لموازنة الدولة المصرية، والتي منها وباعتراف وزير ماليته أربعة بلايين في بند صرف رئاسة الجمهورية المخلوعة، إضافة لنحو 1200 بليون جنيه مصري على هيئة صناديق خاصة تحت تصرف تكنوقراط الإدارة الحكومية. أما حجة الاعتصامات الفئوية فهي لا ترقى للحقيقة بأي شكل، وإلا لخرجوا علينا بأرقام وخرائط تلك الإضرابات الوهمية التي تعطل عجلة الإنتاج الأكثر وهمية. عجلة الإنتاج الحقيقية في مصر كانت الفساد، سيولة الرشى والتجاوزات القانونية هي ما كانت تعطي الدفع لاقتصاد خَرِب كان في طريقه الى الدمار شئنا أم أبينا، والآن سيولة الرشى تقلصت فارتبكت وتعثرت مفاصل الدولة، والاقتصاد الحكومي في الصرف على الخدمات هو للتغطية علي موازنات عامرة بالمخالفات، فيما كل مسؤول يرفض التوقيع خشية المحاسبة، والأسلم تعطيل الأمر حتى نهاية العاصفة. سجلت المراكز الحقوقية في الربع الأول من العام الماضي، 450 إضراباً عمالياً، ولا يجرؤ أحد الآن على تقديم رقم لأن الطبيعة الواقعية للعمالة المصرية هي الصبر في المضرات، أي أننا في الفترة نفسها منذ عام كنا أمام أكبر موجة إضرابات في تاريخ مصر مبارك، واستمرت عجلة الإنتاج في الدوران. وجزء من الحقيقة هو في هروب أو تعطل سيولة الأموال الهشة لرجال أعمال يخشون كشف «تربيطاتهم» بنخبة مسجونة الآن، والجزء الآخر والأخطر هو في الفزاعة الضاغطة على الناس من أجل مباركة فاشية لإجراءات عسكرية ضد المعارضين. من جانب آخر، تدار الثورة عبر الدس الصحافي، فبعد تلون الصحف الرسمية بلون الثورة تعود الى تسمية الثوار بعملاء أميركا، كما تلعب صحف وقنوات عربية دور حصان طروادة لتمرير خطاب عاطفي ومبتذل عن صحة الرئيس المخلوع وزوجته وسكرتيره السابق ورئيس مجلس شعبه. فالصحافة تنشر تقارير نيابة الكسب غير المشروع التي تتحدث عن بلايين، ثم يأتي محامي مبارك ليثبت أنها بضعة ملايين «بعد 60 سنة خدمة» وفقاً لتعبير الرئيس نفسه. فإما أن المدعي العام المصري يفتقد دقة التحريات والمستندات والأدلة، ومن ثم فهناك ضرورة لتسليم التحقيقات إلى جهات حيادية من المجتمع المدني، وإما أن ثلاثة أشهر من تعطيل محاكمة الرئيس كانت كافية لإفساد الأدلة، ومن ثم فهناك ضرورة لمحاسبة المسؤولين عن ذلك. لماذا لا يقولها المجلس العسكري بمنتهى البساطة: لقد فشلنا أو هرمنا في إدارة المرحلة الانتقالية، فلا خريطة سياسية واضحة للخروج الآمن، والحديث جارٍ الآن عن تأجيل للانتخابات البرلمانية، وحديث حكومي عن لجنة لوضع دستور جديد، أي أن العناد والالتفاف للبحث عن «أذن جحا» عبر استفتاء معيب على تعديلات مشوهة لم يخرج بنتيجة، وأن الملف الأمني المتواطأ فيه على تدليل جهاز شرطة لم يعتذر حتى الآن عن قتل 1000 مصري وإصابة 10 آلاف، هو المسؤول عن خوف المستثمرين وهروب السياحة، وإن الاقتصاد الريعي المباركي الأصيل لا أمل فيه، وإن سياسة تعميم اليأس من الثورة وترويع المواطنين من نتائجها لن تخرجهم جوعى يقبلون قدم الرئيس المخلوع كي يعود. لماذا التصميم إذاً على تمرير الساعات والأيام بكل هذا الكمّ من الاشاعات واللعب بالغرائز، هل يفكر المجلس العسكري في نصيحة منظر ثقافة «القلب الصلب» الذي يولول يومياً طلباً لأحكام عرفية؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فماذا نسمي محاكمة 4000 مصري أمام محاكم عسكرية منذ بداية الثورة وفقاً لمنظمات حكومية، وماذا نسمي حكم إعدام بقاصر، وهي إجراءات انتقائية ضد مجاهيل الناس أو معتصمين من أبناء الثورة. تمر الثورة شئنا أم أبينا بمنعرجها الأهم، والرهان الخائب على نسيان أهل حارتنا للدماء ليس في محله، فبعضه لا زال ساخناً ومعظمه لا زال نازفاً، وعبرة الميدان مازالت طازجة لحسن الحظ.