حذّر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان تكراراً من هجوم عسكري تركي على عفرين، وذلك في أعقاب صدور معلومات عن واشنطن بأنها ستساعد «قوات سورية الديموقراطية» التي تتشكل في أكثريتها من وحدات حماية الشعب الكردية على تشكيل قوة من ثلاثين ألف مقاتل تنتشر على الحدود السورية- العراقية والسورية– التركية لمنع عودة «داعش» إلى المنطقة «المحررة» في شمال شرقي سورية. وتعتبر القيادات التركية أن هذه القوة التي ستكون مدعومة أميركياً، تشكل تهديداً للأمن الوطني التركي، كما تهدد سلامة الأراضي التركية وسلامة مواطنيها. وحذّر وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو نظيره الأميركي ريكس تيلرسون ووزير الدفاع جيمس ماتيس، على هامش أعمال الاجتماع الوزاري الدولي حول الأمن والاستقرار في شبه الجزيرة الكورية في كندا بتاريخ 17 كانون الثاني (يناير) من أن «تشكيل قوة كهذه، أمر من شأنه إلحاق الضرر بالعلاقات التركية – الأميركية على نحو لا رجعة فيه». ويبدو من تصريحات جميع المسؤولين الأتراك حول الاستعدادات العسكرية لإطلاق عملية عسكرية «واسعة» من أجل احتلال عفرين ومنبج، أن الهجوم واقع لا محالة، وأن توقيته بات يرتبط باستكمال الحشد العسكري اللازم، إضافة إلى استكمال الخطوات التنسيقية والتقنية اللازمة، سواء مع قيادات حلف شمالي الأطلسي في بروكسيل أم مع القيادات العسكرية الروسية في موسكو، والتي كلف بإجرائها رئيس الأركان التركي خلوصي أكار ومدير المخابرات العسكرية. يؤشر السيناريو العسكري الذي تستعد له تركيا إلى أنه سيتعدى العمليات العسكرية المحدودة عبر الحدود، سواء بالقصف البري أم الجوي، وسيشكل عملية هجومية واسعة لاحتلال كامل «كانتون» عفرين الذي تسيطر عليه القوات الكردية، والتي تعتبرها أنقرة جزءاً من حزب العمال الكردستاني الذي تصنفه كتنظيم إرهابي. وسيؤدي هذا السيناريو (في حال تنفيذه) إلى خلط أوراق جميع اللاعبين الأساسيين في الصراع السوري، وسينقل الحرب إلى مرحلة جديدة أكثر تعقيداً وخطورة بحيث تشمل الأراضي السورية والتركية والعراقية. سيجد الأميركيون أنفسهم في وضع صعب ومعقّد، بين مساعدة «وليدهم» الكردي، وخسارة حليفهم الإستراتيجي التركي، وبين الوقوف على الحياد وخسارة دورهم شرق الفرات الذي يؤمن لهم دوراً رئيسياً للحفاظ على مصالحهم في سورية. ستؤدي عملية خلط الأوراق التي تحضر تركيا لها إلى تغيير جذري في التحالفات وفي موازين القوى في الشمال السوري، وبالتالي إلى تدمير كامل للمنطقة وإلى تهجير جديد لما يقارب مليوني سوري إضافيين، كما أنها ستؤدي إلى ارتدادات إقليمية واسعة. تطرح التحذيرات والتهديدات التركية مجموعة من الأسئلة، لم تبادر أي من القوى الدولية أو الإقليمية المعنية بالصراع في سورية إلى طرحها بصورة مباشرة وعلنية، وذلك تحاشياً منها لإعلان موقف صريح حول السيناريو التركي. ومن أبرز هذه الأسئلة: ما هي الإستراتيجية التي تتبعها تركيا حيال الأزمة السورية منذ بدايتها وحتى اليوم؟ ما هي الأهداف الحقيقية التي تسعى تركيا إلى تحقيقها في سورية؟ ما هي الأهداف العسكرية التي تحاول تركيا تحقيقها من خلال عمليتها في الشمال السوري، بدءاً من عملية «درع الفرات» ووصولاً إلى عملية عفرين ومنبج؟ في رأينا لا يمكن البحث عن أجوبة لهذه الأسئلة من خلال استعراض مواقف وتصريحات المسؤولين الأتراك الأخيرة، والتي صدرت في أعقاب الإعلان الأميركي لتشكيل وتدريب القوة الكردية الخاصة بحماية الحدود الشمالية والشرقية، أو انطلاقاً من المعطيات الميدانية والخطط التكتيكية الموضوعة لاحتلال عفرين، بل يجب الذهاب إلى أبعد من ذلك بحثاً عن الأجوبة الحقيقية لهذه الأسئلة. من أجل إدراك أهداف وأبعاد العملية التركية في الشمال السوري لا بدّ من اعتماد مقاربة تحليلية واسعة وعميقة للسياسات والمواقف التي اعتمدتها تركيا تجاه الأزمة السورية خلال السنوات الست الماضية. ولا بدّ من الانطلاق في هذا التحليل من مختلف الخيارات الإستراتيجية التي اعتمدها الرئيس أردوغان في مواجهة كل المراحل والتطورات التي شهدتها الأزمة السورية خلال السنوات الست الماضية. ولا نغالي أبداً إذا ما اعتبرنا أن هذه الخيارات اتسمت بالغموض والسلبية، باستثناء العداء لنظام بشار الأسد والدعوة إلى رحيله، إضافة إلى رفض الاعتراف بأي دور للأكراد السوريين، واتهامهم بالإرهاب. اعتمدت تركيا في بداية الأزمة السورية خيار نصرة الشعب السوري عن طريق إسداء النصح للرئيس الأسد باعتماد إصلاحات جوهرية للنظام، ومن ثم من خلال تقبلها للجيش السوري الحر على أراضيها، وفي المناطق المحاذية لحدودها، واستقبال مئات ألوف اللاجئين السوريين، وتشجيع العديد من المجموعات السورية المعارضة، ولكن سرعان ما بدأت تركيا التحول إلى اعتماد خيارات متناقضة، من أجل مواجهة تعقيدات الوضع الدولي والإقليمي إضافة إلى نشوء وانتشار المجموعات الجهادية والإرهابية في أجزاء واسعة من سورية والعراق، وبعد اعتماد الولاياتالمتحدة لقوات حماية الشعب الكردي كحليف في محاربة «داعش» بعد معركة «كوباني». في ظل هذه التحولات الدراماتيكية تبدلت المواقف والخيارات التركية، واتسمت ردود الفعل التركية في كثير من المحطات بالتناقضات سواء لجهة العلاقات مع روسيا أم مع الولاياتالمتحدة أم مع إيران أم في علاقاتها مع «داعش» أو «جبهة النصرة»، حيث اتهمت تركيا بتمرير آلاف الإرهابيين والأسلحة، وتجارة النفط غير المشروعة عبر أراضيها لمصلحة «داعش». من هنا يمكن الاستنتاج أن مجموعة المواقف والسلوكيات التي اتبعتها تركيا تجاه الأزمة السورية كانت أشبه بدراما «إغريقية»، مليئة بالمفاجآت والمشاهد الدرامية الدامية والمؤلمة، والتي يمكن اعتبارها نتيجة واقعية لمحاولات أردوغان إعادة صوغ وتوجيه السياسة التركية الداخلية والخارجية، على أساس أنه «السلطان الجديد» لتركيا وبلاد الشام. تقف تركيا الآن على بُعد خطوات معدودة من المشهد الأكثر دموية وخطورة من هذه «الدراما اليونانية» التي صنعتها بنفسها. والمنقذ «المحتمل» الوحيد من السقوط في هذه المغامرة العسكرية الخطيرة سيكون الولاياتالمتحدة، من خلال العمل على إجراء «أعجوبة» للتوفيق بين هواجس تركيا الأمنية ومطالب الأكراد بحقوقهم وهويتهم. تجد واشنطن نفسها في وضع حرج بين حليفين، وستترتب نتائج خطيرة على انحيازها إلى هذا الفريق أو ذاك، واندلاع الحرب في عفرين لن يكون في مصلحتها، إذ سيؤدي في نهاية المطاف إلى «كابوس» مخيف لكل من واشنطنوأنقرة والأكراد. إذا لم يجرِ تجاوز الأزمة في الأيام أو الساعات القليلة الفاصلة عن بدء الهجوم، فإن الرابحين الحقيقيين منه سيكونون روسيا والنظام السوري وإيران. من هنا، فإن السؤال المحرج الذي لا بدّ من طرحه في هذه الساعات الأخيرة الحرجة: هل تشجع روسيا أردوغان على ركوب مغامرة حرب غير محسوبة النتائج؟ * باحث لبناني في الشؤون الاستراتيجية.