بعد مرور شهرين على بداية الانتفاضة السورية، وبعد أن ناهز عدد القتلى ال900، وعدد المعتقلين عشرة آلاف معتقل، لا يلوح في الأفق القريب حسم جذري لتغيير النظام بتلك الطريقة السلمية التي اتبعها المتظاهرون؛ وذلك لأسباب عديدة، منها: قمع المعارضين والمتظاهرين، ومحاصرة كل مدينة وقرية على حدة، بحصارها وقطع أسباب الحياة عنها، واعتقال شبابها وشيبها؛ وتردد الغالبية الصامتة في التضامن مع المتظاهرين، إما بسبب تصديقها الوعود التي يدعيها النظام بأنه ينوي الإصلاح، أو الخوف منه؛ إلى جانب الصمت المريب من الحكومات العربية؛ ومن الاعتراض الخجول من الدول الغربية، بسبب الضغط الإسرائيلي، خشية تغيير هذا النظام؛ وبسبب تعذر انشقاق قوة عسكرية كبيرة يعتمد عليها في الوقوف إلى جانب المتظاهرين، بسبب قمع بعض الانشقاقات الصغيرة، ومعاقبة العسكريين الذين رفضوا قمع المتظاهرين، والدفع المعنوي والجرعة الكبيرة التي حصل عليها النظام السوري، بسبب انشغال المجتمع الدولي بصراعات وثورات عربية أخرى، ومن فشل القوى الغربية في إسقاط النظامين الليبي واليمني. هذا كله يطرح سيناريوهات عديدة للتغيير: الأول: استمرار واتساع رقعة التظاهرات والاحتجاجات السلمية والعصيان المدني، لتشمل أغلب أحياء العاصمة دمشق، وجميع المدن والقرى السورية، وذلك على رغم التكلفة الباهظة من الأرواح البريئة، لأن النظام لن يتنازل بسهولة عن السلطة، خاصة وأن ذلك يعني تغيير المعادلة السياسية بالكامل، والتي منها رجوح كفة الغالبية السنية. الثاني: يتمثل في تكرار الأسلوب الذي اتبعه القذافي، بعد أن قامت الفرقة الرابعة بتطويق أغلب المدن السورية من أجل القضاء على الاحتجاجات في مهدها، والحيلولة بين رجال الجيش وبين الانضمام لصفوف الشعب. هذا السيناريو يرجحه بعض المحللين السياسيين، إذ يعتقد بعض الضباط العلويين أن اللجوء إلى استخدام القوة المفرطة سيخمد الثورة المناوئة للنظام. فانتصار الثورة يعني لهم مسألة حياة أو موت؛ لأن سقوط نظام سورية يعني لهؤلاء أنهم لن تستقبلهم أي دولة عربية أو غربية؛ وبالتالي بقاؤهم في سورية سيعرضهم للمحاكمة، وهو ما يجعلهم يدافعون عن النظام حتى الرمق الأخير. ولكن هذا السيناريو لن تكون نتيجته مؤكدة على المدى البعيد لسببين: الأول لن يكون بمقدور الجيش مواصلة الحملة القمعية التي بدأها في بعض المدن، خاصة إذا ما وجد الشعب صامدا ومصراً على التغيير، ووجد حركة الاحتجاج تزداد وتيرتها. والآخر التعب والإرهاق الواضح الذي دب في صفوف الجيش وعناصر المخابرات. الثالث: يتمثل في تمكن مجموعة من بعض الضباط الكبار من قادة الفرق والألوية في الجيش ممن لم تصلهم المنافع والميزات التي حصل عليها أقرانهم، من الانقلاب وإسقاط النظام، بعد أن يدركوا أنه أصبح عبئاً عليهم، وذلك لضمان بقاء سيطرتهم على الحكم. هذا السيناريو أصبح هدفاً يرمي إليه بعض زعماء الدول العربية والغربية، تجنبا لإراقة المزيد من الدماء البريئة. ولكن الحقيقة أن القيادات العليا في التشكيلات الميدانية، أي قادة الفرق، والألوية، والكتائب، ينتمي معظمهم إلى الطائفة العلوية. فقد اعتمد النظام السوري في تركيبة قيادات التشكيلات العسكرية والأمنية، منذ عام 1974م، استراتيجية طائفية لتثبيت حكمه، تقوم على مبدأ إذا كان قائد التشكيل علوياً، فإن رئيس أركانه غالباً ما يكون سنياً، فيما يكون ضابط الأمن درزياً أو إسماعيلياً، والعكس بالعكس. كما يشكل صف الضباط والجنود المتطوعين العلويون 70 في المئة من تعداد المتطوعين في الجيش، وتوزعت النسبة الباقية بالتساوي تقريباً على السنة والدروز والإسماعيليين. الرابع: يتمثل في قيام بشار الأسد فيما بعد بمزيد من التنازلات، وسيحاول عرض العديد من خطوات التغيير السياسي على السوريين، والتعهد بإجراء إصلاحات حقيقية ملموسة. ولكن هذا السيناريو غير مضمون النتائج على المدى البعيد أيضاً؛ لأن الرئيس الأسد أدرك أن هناك فئة كبيرة من الشعب نالها من الأذى الكثير، بحيث لا يمكنها الصفح. كما أنه لن يتمكن من التخلي عن سياسته الخارجية مباشرة، باعتباره زعيم المقاومة والصمود والممانعة الأول. الخامس: ازدياد الضغوط الدولية على النظام، بعد إصدار عدة قرارات حازمة من الأممالمتحدة، مثل القبول بدخول لجنة تقصي حقائق تابعة للأمم المتحدة إلى سورية، التي لم يستجب إليها النظام حتى الآن؛ مما يضطر الأممالمتحدة إلى اللجوء إلى الفصل السابع من قرارات الأممالمتحدة، بعد نفاد صبر المجتمع الدولي. هذا السيناريو يعترض عليه بعض المعارضين السوريين، ولكنهم في الحقيقة يدركون في قرارة أنفسهم أن تغيير النظام فيه شبه استحالة من دون تدخل قوى عسكرية أجنبية قوية. بخاصة أن لديهم تجارب سابقة مع نظام صدام حسين، حين عجزت الدول العربية مجتمعة على تغييره؛ وعدم تمكن المعارضة الليبية حتى الآن من الوصول إلى غايتها بتغيير نظام القذافي، بسبب رفضهم وجود قوات برية أجنبية على الأراضي الليبية. وهذا السيناريو أضحى حديث الكثير من العائلات السورية التي فقدت أو اعتقل أبناؤها، أو أزواجها، أو آباؤها. نخلص من ذلك إلى أن الأمر يبقى في نهاية المطاف بيد الشعب السوري، الذي سيحدد مصيره بيده، فإما أن يستسلم للقمع والأسر المرجح استخدامه من قبل النظام، أو أن يواصل احتجاجاته السلمية غير عابئ بما قد يواجهه، حتى يتم له مراده. وفي كل الأحوال لن تعود سورية إلى الوراء أبداً. * باحث في الشؤون الإسلامية.