في ما يعود الى موجة الحركات السياسية التي تعم العالم العربي من الخليج الى الاطلسي، والى تفسير ظهورها، ثمة عوامل تتخطى العوامل الظرفية الى العوامل العميقة والبعيدة الأثر. ولعل أولها طبيعة الانظمة القائمة. فبعضها متصلب وجامد منذ زمن طويل، وبعض آخر يشق الابواب والنوافذ أمام التغيير على حذر وتحفظ شديدين. وينجم عن غلق الأبواب إبطال دور الهيئات الوسيطة التي تمثل المجتمع المدني، وهي الاحزاب والنقابات والجمعيات والروابط، وشلّ هذا الدور. فتجد الانظمة نفسها في وسط نخب مستلبة، تفتقر الى الصدقية، وضئيلة العلاقة بالبلد والمجتمع الحقيقيين، وسندها الوحيد هو الأجهزة الامنية. والانفتاح الاقتصادي، على الشاكلة التي فرضتها العولمة ويكيل لها المديح المستثمرون والممولون الدوليون، لم يعد بالمنفعة إلا على النخب هذه. وصاحب النموَ، وهو لم تسانده سياسة توزيع منصفة، تردٍ في احوال الطبقات الوسطى، وهشاشة أصابت سياسة العمالة. وأخيراً، لحق بالتطور السكاني تطور حاد. فانتقلت الوحدة الاساسية من العائلة الابوية الواسعة (أو «الجب») الى الاسرة النواتية. وانخرطت النساء في الحياة الناشطة، حياة العمل، وفي الحياة العامة. وهذا انقلاب بعيد الأثر. وفي هذا الوقت، حسمت وسائل الاتصال الجديدة احتكار الدولة الاعلام وأبطلته، وأتاحت للجمهور الانفتاح على العالم الخارجي والإلمام بمجرياته. ولا شك في أن دخول «الجزيرة» البيوت، قبل انتشار التكنولوجيا الجديدة، كان في مثابة ثورة! وقد يكون الشعور بالكرامة الجريحة وبالمهانة هو نذير الانفجار وشرارته. والكرامة مفهوم أساسي. وعلى من يريد فهم الحوادث الراهنة الوقوف ملياً عنده. فإلى الامس القريب، كان شرف الامة هو المعيار الراجح. وشرف الامة مفهوم جماعي. والكرامة، على خلافه، مطلب فردي وشخصي. والحق أن «ويكيليكس» كشف، على مرأى من الجميع، عن ازدراء الحكومات المواطنين. واضطلعت اذاعة الوثائق بدور في ادراك المواطنين الامر، وانتباههم اليه. والحركات الديموقراطية المتفرقة قام بها مواطنون، ولم يقم بها متدينون وأصحاب أغراض دينية سياسية. والشباب هؤلاء ينكرون تسلط الانظمة الحاكمة إنكارهم مقالات الاسلاميين الايديولوجية. وهم يرفضون الاستبداد والثيوقراطية معاً، وجزء من جيل معولم، ما بعد ايديولوجي، يقدم استقلال المرء الفرد بنفسه وأحكامه على المعايير الجماعية والتقليدية. ويرفض هذا الجيل الانكفاء على الهوية، اسلامية متشددة كانت ام غير اسلامية متشددة، ويتوق الى تبني القيم والمعايير الكونية والإنسانية. ويجمع زمني «ربيع الشعوب» في 1848 وأيار (مايو) 1968، أو عدوى الاشتعال والوجه الرومنطيقي. ولا نعلم بعد إذا كان في مقدور هؤلاء الشبان والشابات الارتقاء بما صنعوا الى مضمون سياسي متماسك. والحال تنزع الى الاستقرار على حرب خنادق ومواقع تخوضها الانظمة المحاصرة والحركات الديموقراطية. والنظر من قرب الى تونس ومصر يكشف عن الفرق بين حالي البلدين. وأرى ان الانتقال الديموقراطي في تونس يدعو الى التفاؤل. ويدعو الى بعض التحفظ في مصر. فالجيش كان على الدوام عمود النظام الفقري. وهو تخلى عن تأييد رأس الدولة واستجاب إلحاح الشارع. لكن الجيش يدير الدفة، والأرجح أن يتولى هذا الدور وقتاً طويلاً. والسعي في إنشاء حزب متسلط، على أنقاض النظام السابق، من الاسلاميين ورجال الاعمال والمعارضين السابقين، في مقابل الاصلاحيين، ترجح كفّته على الامكانات والاحتمالات الاخرى. والنظام قد يسقط في سورية إذا نجحت الانتفاضة في الصمود والدوام والانتشار، وإذا حمل انتشارها السلطة على الزج بالجيش، وتردد هذا في إطاعة الأمر. فيما تولى الحرس الجمهوري الرد في إمرة الحكام الذين تربطهم روابط أهلية وعائلية، وساندته الجماعات شبه العسكرية، تماسك النظام. فإذا عمت الانتفاضة البلاد والسكان، احتاج هذا الى القوات المسلحة كلها. وهذه مشكلة تعانيها الانظمة المنكفئة والمتكلسة كلها، حال اضطرارها الى التعامل مع عصيان أو انتفاضة. ويتولى النظام الملكي دورين: التحكيم والتمثيل على هوية الامة. ومعظم سكان الدول ذات النظم الملكية تقر بالدور المزدوج هذا. ولكن الحال قد تتغير اذا لم يستجب أولي الامر لتطلعات شعوبهم الى الاصلاح، وذلك في الأوان المناسب. ويجوز الحفاظ على امارة المؤمنين إذا نهضت هذه على معنى اخلاقي، على نحو ما تَرئس ملكة المملكة المتحدة كنيسة انكلترا وتتولى مهمة «ديفاند أوف ذا فايث» (المحامية عن الايمان). وهذا لا يقتضي التمسك بالقدسية الشخصية. والتمسك بها على مثال الملكية المطلقة الفرنسية، في اطار مؤسسي ديموقراطي، على ما هي الحال، يؤدي لا محالة الى عموم حال الاشتباه بالاحكام كلها، والى التعثر. وأعتقد أن النظام الملكي المغربي على دراية تامة بالتحدي، على رغم تردده في مواجهة مترتباته. وعين الملك محمد السادس لجنة دستورية استشارية أوكل اليها صوغ مقترحات اصلاح بينها الغاء «قدسية» الملك الشخصية. ويعود اليه بت المسألة هذه. وما يدعو اليه غلاة اليسار وجناح من حركة 20 شباط (فبراير) من انتخاب مجلس تأسيسي غير واقعي. وهو يعني نهاية النظام. والمجالس التأسيسية، تاريخياً، تطوي النظام السابق وترسي أركان نظام يخلفه. وأرى أن على النظام الملكي المغربي الاقلاع عن الالتباس بين مشروعية الاقتراع ومشروعية التقاليد، واستلهام التجارب الاوروبية (وربما الإسبانية)، مع الحفاظ على تقاليده وثقافته. والتسويف، بعد التردد والانتظار الطويلين، يفتح باب المساءلة، ويحمل على السرعة واجتراح الحلول المتأخرة في وقت داهم، وهذا تحدٍ كبير وغير مسبوق، وإصلاح الدستور لا يقتضي تعريف توازن السلطات وإرساء أمارة المؤمنين على ركن أخلاقي فحسب، بل يوجب الى ذلك ادخال جملة أنشطة الدولة في إطار قانوني وعقلاني. وما هو مطروح على المغرب يطرح على الاردن الذي يشكو من ضعف عمق الملكية التاريخي، قياساً الى عراقة المؤسسة المغربية. وقد يكون الطريق في الخليج طويلاً بعض الشيء، نظراً الى حداثة المجتمع المدني. ويبدو الغرب، الهاجس بالفزاعة الاسلامية، قاصراً عن فهم هذه التطورات، والفرنسيون تعميهم هذه الفزاعة. ويبدو الاميركيون أكثر ميلاً الى البراغماتية العملية، ووزن الامور في ميزان مصالحهم الاستراتيجية، كل أمر على حدة. وعندما ألقى باراك أوباما خطبته القاهرية، في 2009، كنت بين كثيرين طلب مشورتهم ورأيهم. وأظهر فهماً للمنطقة وقضاياها قصَّر دونه غيره من الرؤساء. ولكنه لم يكن يدرك ضوابط النظام الاميركي على قدر ادراك الرؤساء السابقين، وعلى الاخص وزن اللوبي الموالي لإسرائيل. * حفيد عاهل المملكة المغربية السابق محمد الخامس وابن أخ الحسن الثاني وابن عم الملك محمد السادس، باحث في الولاياتالمتحدة، عن «لِكسبريس» الفرنسية، 11/5/2011، إعداد منال نحاس