ساقته قدماه إلى باب المسجد. كاد يتراجع بعدما شعر بالدوار. توقف لبرهة، ثم قرر الدخول. هنا، وفي هذا الحي عموماً؛ معقلُ الجماعة إياها التي يخشاها كثيراً. هنا بالذات برابرة طيبون، لكنهم باتوا معدومي الحيلة إزاء توغل تلك الجماعة. الفقراء. اسم جيكا مع أسماء آخرين ذابت على الجدران، لكنها عامرة في الروح والذاكرة. أطلّ بحذر. توجّس، وتردّد من جديد، ولكنه منهك، ونفسُه مقطوع. في احتياج لمدد ما. هو تعوّد على ذلك. يحسبها جيداً، قبل أن يقرر الوضوء. وماذا لو سقط؟ مات الآن؟ تزداد هواجسُه. كيف سيتصرفون هنا وماذا سيفعلون بجثته إن مات غريباً. وإن لم يمت، وتعرّض فقط لغيبوبة. ينظر وجوهاً بليدة، ضبابية صامتة، لكنها تعرف ملامحه جيداً. منيرة، مكفهرة، ومرهقة؛ بائسة. يسأل نفسه لماذا يتذكر ذلك كله الآن. يمشي في وسط البلد، قدِم من ناحية الجامعة الأميركية مروراً بالفلكي. يطالع واجهات المحال. يمشي. يحدث نفسه. هل لضعف ما تجاه هؤلاء البشر وتحديداً في تلك البقعة من وسط المدينة؟ يتذكر يوم الثامن والعشرين من يناير عندما تخلّص من بدلته الميري فور أن رأى الصبي القاتل يجز رقبة مَن كان يلعب معه القمار في الخامسة بعد العصر. جلبة وعراك شمّامي الكُلّة. القتلة. لصوص الليل. ملائكة النهار الخامدون الجوعى. قبل مدخل شارع ريحان؛ على رصيف «هارديز»، و «بيتزا هَت». هل هناك دور ما يذكر لما حدث له بالأمس عندما التهم خمسة سجائر ملفوفة، فباح للقبطان عزيز بما يحدث من زوجته وتقبيله أقدام بناته بعد منتصف الليل؛ وبكائه وحده في النافذة الغربية بوقفته نفسها تجاه شارع النيل. ما يحدث له عندما يختلي بنفسه بعد الفجر وحيداً في فراشه. ما تفعله وقتما يريدها في فراش الحب كما يسميه هو. وقتما تتمدد كالمرتبة الإسفنجية الباردة بلا حراك. بعدما تكون قايَضته على ثلاثة أرباع مرتب الوزارة؛ ليكتفي هو بما يخطفه من حراكه في البلوكامين وعربة الترحيلات في باب الخلق. اجترّ؛ وزادَ وعاد ونفِر، فلم يخشع. لم يزل واقفاً على باب المسجد في ساحة عابدين، والشمس تضرب الفقر في بلادةٍ، فترسم الملامح بصبغات كئيبة على وجوه ممتعضة وكسولة. يلتفت جهة اليمين، ويصعد درجات السلم قاصداً مكان الوضوء. يسحب قدميه في وهَن، يقدم اليسرى ويعود باليمنى. يبحث عن جوربه الذي سقطت فردّته بعيداً مِن الحذاء الذي هوى في عبث من أعلى الدرج الخشبي. يشعر بضيق في تنفسه، وآلام في ركبتيه. يتباطأ في النزول. يجتر. يلامس الدرابزين متوجهاً إلى أسفل، حيث الميضة. يرى بقعاً مِن الدم متجلطة؛ تتوسط الأرضية الرخامية الزلقة. يصطدم بحواجز حديدية فاصلة بين دورات المياه وأحواض الوضوء. ينكفئ. يتمخّط. ينفجر الدم شلالاً من أنفه. عيناه تقاومان السقوط في قعر الحوض البازلت. تنطفئ الأنوار فجأة وقتما نادى الإمام: - حي على الفلَاح. يتذكر الدماء في رقبة الصبي وهو ينزف، ينفجر في خرطوم ناري في سهم جمرٍ مشتعل. وطلقات الرصاص تدوي في الميدان والعربات تفر على الأسفلت ونساء ينادين على أزواجهن من وسط ساحة التحرير. يحاول أن يتشبث بالعمود. الدم لا يزال يسيل من أنفه. يمسح شفتيه. يحجب ملامحه عن المصلين. زيُه الغارق في الدماء الطازجة. يرى البشر في شبه غمام وهم يتقدمون في انتصاب وخشوع لصلاة الغائب. يتحسّس قلبه. يربّت على كتفه، مِن دون أن يدري ما الذي يدفعه إلى ذلك. يتوه. يشعر بدوار. مَن أتى بي إلى هذه الخلوة وأنا الهاربُ مِن قبر؟ لا هو موصد ولا هو مشرع. قبوٌ قديم، ونوبات سُكرٍ تكاد تفتك بوعيي، تدمره، تدمرني، تحيلني حطاماً؛ أشلاءً تتحرك في زي أسود بنجوم مطفأة. يتذكر تلك الجثة للسيدة الغريبة التي رجَته أمُه أن يلملم ملابسها لتسلمها إلى الباقين مِن غرباء المدن الماكثين منذ ليالٍ ثلاث حول مشرحة زينهم ووسط ساحة التحرير. تفور رأسه وتتعدد الصور، لرفاقه في الخدمة في قسم قصر النيل، وصفعات على وجه السيد وردة؛ قبل جمعة الغضب بساعات. فجر الثامن والعشرين. زوجته الهامدة. صلاته المتواترة. لا. يشد شعرَ رأسه لعله يفيق. مخنوق. مكلوم. يكاد يصرخ في صحن المسجد وبخاصة أنه قد مسح الدماءَ وترك البقعَ المتجلطةَ على الأرض. يعاود التذكر. هل يتوضأ من جديد؟ هو لا يؤكد ولا ينفي. لكنه في احتياج للبوح، والوصال. يحادث نفسه: - أي وصالٍ وأنت لا تسجد إلا في لحظات يأسك؟ لتتذكر مسيرتك في الحياة. عملك وزوجتك، وسنواتك الماضية في الخدمة وفي الحياة؛ موتَ أبيك، نهايتَه؛ طلقةً تخترق جدرانَ الصمت، فتطيش في الغمام قبل أن تستقر في رأسه؛ فيسقط وقد افترش الحصير بجسده الفارع حتى لاحت أطرافُه تهتز بعنفٍ بعيداً مِن كرات دموية تصبغ اللمبات الفلورسنت والمشكاةَ الوحيدةَ المضاءة، يسارَ العمود الصلب الذي بدا كأنه متصلٌ بالسماء.