هل نشير إلى منطقتنا في العالم العربي؟ فماذا عن غير العرب من المواطنين! هل نتوسع في الدلالة فنقول العالم الإسلامي؟ فماذا عن غير المسلمين من المواطنين؟ فهل نكتفي ونطلق عليه الشرق الأوسط؟ فماذا يعني ذلك؟ أصدرت صحيفة «تايمز» عام 1895 أطلساً يضم سلسلة من الخرائط لمنطقتنا لم تكن مألوفة لدى قاطنينا آنذاك. والحقيقة أن مصطلح الشرق الأوسط هو أوروبي بامتياز، استخدم للمرة الأولى عام 1902 في إشارة إلى الاستراتيجية البحرية البريطانية في منطقة الخليج في وقت تزايد فيه النفوذ الروسي حول بحر قزوين والخطط الألمانية لإنشاء خط سكة حديد برلين - بغداد. ومن خلال الوثائق التي نشرتها صحيفة «تايمز»، فإن مصطلح الشرق الأوسط، إنما يشير إلى منطقة لها أهميتها بالنسبة إلى بريطانيا، وتقع بين الشرق الأدنى (مصطلح أوروبي آخر يعني المنطقة التي ظلت تحت سيطرة الإمبراطورية العثمانية)، وبين الإمبراطورية الروسية في آسيا الوسطى ومناطق الحكم الهندية، مع العلم أنه كان يشار خلال الحرب العالمية الأولى إلى قوة الحملة البريطانية في بلاد ما بين النهرين باعتبارها قوات الشرق الأوسط، تمييزاً لها عن قوات الشرق الأدنى البريطانية التي كانت تعمل انطلاقاً من قواعدها في مصر، والتي بعدما وضعت الحرب أوزارها تم الدمج بين هاتين القيادتين العسكريتين كإجراء اقتصادي، إلاّ أن مصطلح الشرق الأوسط ظل كما هو. مع مرور الوقت صار مسمى الشرق الأوسط مألوفاً ومؤسسياً، إن في القيادات العسكرية للحرب العالمية الثانية، أو في الوكالات المتخصصة التابعة للأمم المتحدة، ومع ذلك لا تزال الشكوك والملابسات التي تكتنف التحديد الأكثر دقة لمصطلح الشرق الأوسط قائمة، فهل يتضمن الشرق الأوسط أفغانستان من ناحية الشرق؟ وهل مع انهيار الاتحاد السوفياتي ينبغي إعادة النظر في تشكيل مناطق المصطلح لتشمل دولاً جديدة ذات سيادة مثل أرمينيا وأذربيجان مثلاً؟ وبالنظر إلى الخريطة السياسية المعاصرة لمنطقة الشرق الأوسط يتبين لنا مدى هيمنة الخطوط الحدودية الطويلة والمستقيمة الممتدة عبر مئات الأميال، هذا طبعاً من منظور الحدود، أما من زاوية الموارد، فإن عدم وجود توافق بين الحدود السياسية والمائية أدى إلى تعقيد تنمية المصادر الشحيحة للمياه، فالتدخل الأوروبي القديم لتقطيع أوصال الإمبراطورية العثمانية خلق، أو بالأحرى فرض، مصيراً صعباً على بعض المناطق ومصيراً أقل صعوبة على مناطق أخرى، وإليك الأكراد وهم من غير العرب ولكنهم من المسلمين ويشكلون غالبية من السكان تقدر بالملايين، ومع ذلك ونتيجة للتقسيم الذي أدى إلى انتشارهم بين كل من تركيا وسورية والعراق وإيران فقد سعوا إلى محاولات مستميتة للحصول على حكم ذاتي كانت محصلته الدخول في صدامات واشتباكات دامية مع تلك الدول الأربع مجتمعة. وعلى هذا النحو نقول إن المعالم الجغرافية لخريطة المنطقة أعيد رسمها وتشكيلها طيلة القرن العشرين، وبانقضاء القرن الماضي، وتزايد مصالح دول المنطقة وتشابكها، فإن الحدود التي أوجدتها الإدارات الاستعمارية لم تخدم تلك الصعوبات، ناهيك عن مسألة الولاء والشعور بالانتماء الوطني الحقيقي للدولة. في الفيلم الإيراني «باسهو» يحكي المخرج قصة صبي تعرضت قريته للقصف في صحراء خوزستان جنوب غربي إيران، فلا يفهم باسهو الأسباب التي فجرت الصراع بين حكومته وجارتها العراق، ولكنه يعي أنه في وضعه الحالي أصبح مشرداً ويتيماً، فينهكه التعب ويستريح على ظهر شاحنة فيستغرقه النوم، لتنتابه الدهشة عندما يستيقظ ويجد نفسه في عالم من الغابات الخضراء، فعلى ما يبدو نقلته الشاحنة إلى مقاطعة جيلان في شمال غربي إيران، حيث يلتقي الصبي الفلاحة التي تستضيفه للعناية بشؤون مزرعتها ريثما يعود زوجها من جبهة القتال على رغم معارضة جيرانها لقرارها. ولأن باسهو هذا من أصل عربي، كان يتحدث بلهجة تعتبر مزيجاً من العربية والفارسية، وهي وإن كانت مألوفة لدى سكان المناطق الحدودية في خوزستان، إلاّ أن السيدة الفلاحة كانت تتحدث بلهجة الجيلاني الفارسية فيعجز باسهو عن التفاهم معها ومع جيرانها، ما يعني مشقة بالغة في التعامل مع محيطه، ليزداد الأمر سوءاً بطلب زوج الفلاحة (العائد) من الصبي الرحيل وترك البيت، فترفض الزوجة الإذعان لطلبه الظالم... وتمضي الأحداث. فماذا يعكس الفيلم؟ صورة مصغرة لتعقيدات أكبر يعيشها الشرق الأوسط الذي يكتشف أهله كل يوم مدى الخلافات التي يواجهونها في ظل المتغيرات والتحديات المرتبطة بالحدود والبيئة والثقافة والدين والجنس البشري، لتأتي الحكومات بسياساتها المربكة. وعوضاً عن خلق التوافق وإيجاد المخارج والحلول التي هي مهمتها الأساسية تتحول إلى جزء أصيل من المشكلة. لكن العقدة الأكثر تعقيداً أن تخرج حكومة وتأتي حكومة والشرق الأوسط هو الشرق الأوسط. [email protected]