منذ العام 1958 اعتاد اللبنانيون على «فورات» عمرانية مختلفة عن تلك التي يشهدها أي بلد، وغالباً ما ارتبطت هذه الفورات بالحروب، كان آخرها عام 2006 بعد حرب تموز (يوليو) التي شنّتها اسرائيل على لبنان، وقد توسعت منطقة «الرمل العالي» في الضاحية الجنوبية لبيروت في تلك الفترة بما يقارب ال 40 في المئة، ولم تتوقف حركة البناء غير الشرعي إلّا بعد تدخل القوى الأمنية وحدوث مواجهات أدت إلى سقوط طفلين. أمّا هذا العام فيختلف الوضع إن لناحية المساحة التي غطّتها هذه المخالفات أو لطبيعة الوضع الأمني، فالمخالفون استفادوا من الفراغ الحكومي وغياب الرقابة الفعلية، فسارعوا إلى تشييد أبنية مخالفة للقانون. تمركزت الحركة العمرانية المستجدة في قرى الجنوب الساحلية ومنها بلدات البيسارية، تفاحتا، الصرفند، السكسكية، عدلون، انصارية، الخرايب، الكوثرية وغيرها من قرى الزهراني، إضافة إلى منطقة الأوزاعي وبعض مناطق الضاحية الجنوبية لبيروت، وتمّ تداول أسماء بعض قرى عكار والبقاع في المشكلة نفسها، وإن اختلفت تفاصيل منطقة عن أخرى فالطابع العام للمشكلة وجوهرها يبقى واحداً... ويبدو إصرار الدولة على وضع يدها على المخالفات حازماً، وإن حدثت أحداث مأسوية تمثلت بسقوط قتيلين في منطقة صور. وفي هذا التحقيق منطقة الأوزاعي نموذجاً. قاطرة شاحنة نقل متمركزة في أسفل أعمدة خشبية وحديدية انتصبت حولها وعليها مشكّلة دعائم سقف من الخشب يفصل بين طبقتين مفترضتين، تعكس سرعة مَن يسعى إلى تشييد هذا البناء، والذي لم يعطِ نفسه الفرصة لسحب القاطرة. مشهد القاطرة الداعمة للبناء ليس المشهد الوحيد المخالف للطبيعة في منطقة الأوزاعي أخيراً، فقد شكّلت الأعمدة الخشبية أو الاسمنت الطري، مشهداً مكملاً لعشوائية هذه المنطقة وبخاصة أنها التفّت من فوقها جدران من الحجارة، لتشكّل هيكل طبقة جديدة، شُيّدت فوق طبقة مأهولة مع أنها غير منجزة، وخلف بقايا سيارات وشاحنات مستعملة، لا يمكن أحداً تخيّل أنها ستار استخدم لحجب الرؤية عمّا يُبنى خلفه. المشهد يتكرر على طول منطقة الأوزاعي التي يشعر المار بها بأنها تمدّدت حوالى كيلومتر على الأقل. مشهد يحاكي ذلك الممتد في بعض القرى الجنوبية الساحلية ومنطقة «الرمل العالي» في ضاحية بيروت الجنوبية، وإن كانت حركة البناء في المنطقة الأخيرة أقل زخماً مما تشهده المناطق الأخرى، بخاصة إذا ما قورِنت بالفورة العمرانية غير المسبوقة التي شهدتها عام 2006. في هذه الورش ينشط عشرات عمّال البناء لإضافة طبقات فوق سطوح منازل تتألف من طبقة أو اثنتين، أو لبناء طبقة أرضية على قطعة أرض خالية، بصرف النظر عن مساحتها أو موقعها. وقد برزت أخيراً ظاهرة الاستيلاء على الأملاك العامة، والبناء عليها من دون مراعاة لأية شروط سلامة في البناء أو الموقع كما حصل في المنطقة المتاخمة لمطار بيروت، بخاصة بين المدرجين 16 و17 والتي أجمع الخبراء على الخطورة التي تشكلها على قاطنيها وعلى سلامة حركة الطيران المدني. لا يحتاج الناظر إلى المباني «المستجدة» أن يكون خبيراً ليعرف أنها غير سليمة لجهة أساساتها، وأن أي إضافة عليها ستفاقم من سوئها. ويستخدم «المعتدون» على الأملاك العامة السيمفونية نفسها في الدفاع عن «إنجازاتهم»: غلاء المعيشة وبخاصة العقارات، غياب الدولة عن تلبية متطلباتهم واحتياجاتهم... ولا ينفك بعضهم يكرر: «إنهم أقوياء على الفقير فقط، فليحاسبوا مَن يسرق أموالنا وأموال الدولة نحن نريد أن نستر أنفسنا وعائلاتنا». أسباب إنسانية لا يمكن اثنين أن يختلفا عليها، إلّا أن التأثير العاطفي لهذه الأسباب لا يلبث أن يتلاشى، بخاصة مع مسارعة بعض سكان هذه المنطقة إلى الهمس بأن أصحاب الأبنية الجديدة في غالبيتهم من التجار الذين يلجأون إلى تأجير هذه الأبنية بعد الانتهاء من بنائها: «الفقير لا يستطيع السيطرة على أرض أو تأمين مواد البناء المرتفعة السعر ، فضلاً عن أنه لا يستطيع رشوة أحد أو الدفع للعمال من أجل المسارعة في إنجاز ما يلزم» يقول عجوز جلس قبالة عربة خضاره. مشهد القوى الأمنية تقوم بهدم بعض هذه الأبنية في مؤازرة من الجيش، لا يبعث الطمأنينة في النفوس. المخالفون يعمدون إلى استخدام سلاح فعّال في وجه القوى الأمنية إذ يضعون في مواجهتهم النساء والأطفال في الدرجة الأولى، أو يحملون في اجتهاد مستجد الأطفال والمصاحف لجعل أي رد من رجل الأمن اعتداء على الطفل أو المرأة أو حتى المصحف، وبالتالي إهانة تستوجب الرد والتأديب قبل أن يتم التدخل من قبل بعض «القيّمين» على المنطقة من قوى حزبية أو نواب أو بلديات. ولا تبدو عملية الهدم حلًّا لمشكلة باتت مستفحلة، يقوم معها المواطن بالتذاكي على القانون، تحت شعارات الاستعطاف المختلفة، وذلك في انتظار تسوية ما قد يلجأ إليها مجلس النواب بعد سنوات من أجل تسوية أوضاع مثل هذه المباني. واقع بدا وزير الداخلية والبلديات زياد بارود على دراية تامة به، وحذّر من مغبته معتبراً أن «إزالة المخالفات هو الرادع الأمثل لمثل هذه المخالفات، وأن أي تسوية لأوضاعهم ستحفز الآخرين على الحذو حذوهم لأن التسوية تعتبر مكافأة لهؤلاء». ويعتبر أن المسؤولية في هذا المجال تقع على عاتق الحكومة مشتركة وأن الوزارات والنواب والبلديات معنيون في قمع هذه المخالفات، وأن مشاركة بعضهم في مساعدة القوى الأمنية والجيش جهد مشكور واضعاً إياه في إطار «الواجب الطبيعي». وكشف أن حوالى 75 في المئة من المخالفات في منطقة الأوزاعي، بخاصة تلك التي تشكل خطراً مباشراً على حركة المطار، تمت إزالتها، مشيراً إلى أن العمل على الحد منها يحصل من خلال حجز الآليات التي تستخدم في نقل مواد البناء، لورش غير شرعية، وإزالة ما تمّ بناؤه. ولا ينكر بارود أن الأمر حساس جداً، رافضاً وضع إطار أو تصنيف معين لمن يقوم بمثل هذه المخالفات: «الذي يعتدي على الأملاك العامة والمشاعات لا طائفة له، فهو يعتدي على أملاك كل اللبنانيين». التصنيف العام الذي أطلقه بارود على المعتدين، لا ينفي كون معظم سكان هذه المناطق هم من الطائفة الشيعية، ويرى الكثيرون أن هؤلاء «يمارسون منطق الاستقواء في تصرفاتهم وأنهم خارج أي محاسبة»، وفي حين رفض مصدر في حزب الله التعليق على الأمر مكتفياً بالقول إن هذا الأمر «مسيء ومؤذٍ»، أكد الناطق الإعلامي باسم حركة «أمل» طلال حاطوم رفع الغطاء عن أي شخص مخالف للقانون، وأكد الوقوف إلى جانب القوى الأمنية، رافضاً «تضخيم الأمور»، وداعياً «الدولة لتحمّل مسؤوليتها، من دون التذرّع بعدم وجود حكومة، لأن المؤسسات تعمل في وجود حكومة أو من دونها، ولتمارس الدولة سلطتها بقمع المخالفات، ولتلعب دورها». التجاذبات السياسية في هذا الموضوع لا تقل وطأة عمّا يحصل في أي أمر آخر في لبنان، ومن الملفت أن الأحزاب التي تحرك شوارع بأكملها بكلمة أو بخطاب فتطلق تظاهرات أو احتجاجات أو إشكالات أمنية، تتقلّص قدرتها على التأثير في شكل مفاجئ، وتتحول كلمتها من «السمع والطاعة»، إلى تمنيات مبطنة تطلقها من أجل التعاون وعدم التعدي مراعاة لمشاعر «الناخبين». ويصبح مصطلح «رفع الغطاء»، الذي بات من الأعراف اللبنانية، «المنقذ الأبرز»، إذ يُرفع مع كل حادث وغالباً ما توجهه الأحزاب التي ينتمي إليها المُرتكب، فتسارع إلى إصدار بيان يبدأ ب «نرفع الغطاء عن...» على أن يتم ملء النقاط الثلاث بالتتمة المناسبة!