في مجموعته القصصية «عشيقة جَدّي» (الهيئة المصرية العامة للكتاب)، يتقلّب المصري محمد بركة بين أزمنة وأمكنة متباعدة، مدفوعاً بحنين جارف إلى ماض يستعيده، وطموح جامح نحو مستقبل يذهب إليه طيّعاً. لكنه في هذا الذهاب يبدو «الغريب» الذي يتشبّث بجذوره القروية وهو يواجه قارة اسمها «الولاياتالمتحدة الأميركية»، حتى وهو يفكّر في قضايا أخرى تأتي عليها بعض قصص المجموعة مثل حالة الخوف التي واكبت الاضطراب السياسي بعد ثورة كانون الثاني (يناير)، وإدراك التجربة الدينية الخاصة، وكيفية الاشتباك الإيجابي الخلاّق مع الآخر. لهذا تزيد في القصص الكلمات والعبارات والإشارات الدالة على استرجاع الماضي، علاوة على المضمون الكلي الذي يغرق أحياناً في بحر الاشتياق إلى الأيام البعيدة. ففي قصة «ناصرة»، يستعيد بركة حكاية ريفية مكرورة عن انشغال المراهقين بالجنس، في ظل مجتمع محافظ، لا يتيح لهم إلا فرصة ضيقة قد تكون بطلتها فتاة معاقة ذهنياً، أو يتيمة على حافة التشرّد، أو بنتاً جسورةً لعوباً تبحث عن المتعة غير عابئة بالتقاليد والعادات. وحين يقع الاسترجاع في رأس بطل القصة وراويها، فإنه لا يكون مجرّد رغبة في تأجيج الشبق، أو تشفياً في فتاة كان المراهقون يتبادلونها بلا ورع، إنما محاولة للإجابة على سؤال يؤرّق صاحبه: لماذا كانت هذه الفتاة التي تُسمّى «ناصرة» تترك نفسها للأولاد ليعبثوا بها؟ ثم يزيد على هذا برغبة في الانتقام ممن انتهكوا براءتها. في القصة الثانية، حنين إلى خالة ماتت بالسرطان، ويشعر الراوي بتقصير حيالها لأنه لم يزرها وهي تئن على فراش المرض في مستشفى حكومي متهالك، ولم يمش في جنازتها. أما القصة الثالثة، فلا تدعنا نبحث طويلاً عن هذه التيمة الغالبة على النص، إذ تبدأ بعبارة تقول: «كنا كعادتنا القديمة في الأرياف»، فيما أخذت القصة الرابعة عنواناً دالاً في هذا السياق هو «المطرب القديم»: «سرق قطعة من روحي وأنا مراهق في السادسة عشرة ثم غاص في الموج البعيد الرمادي للنسيان. وبينما أقصّ الآن شريط الأربعين من العمر، أستعيد هتافه الحار كعصفور مذبوح»، وذلك حين «كان يغنّي للواقفين على الموانئ القصيّة، أولئك الذين مرقت السنوات من بين أصابعهم مثل ماء ملعون». ولم يغب الحنين عن القصة الخامسة وعنوانها «المطرب الإنكليزي»، فهو وفق النص: «مطرب بريطاني قديم رنَّت كلماته في أذنيّ ذات مساء بعيد وأنا في المطعم الفاخر أتناول بمفردي عشاءً بارداً». إن استعادة الماضي لدى الراوي تلازمه حتى في الألم. فهو حين شعر بتعبٍ في باطن قدمَيه في قصة «جَدّي» تذكّر جَدّه الذي كان يعود من الحقل شاكياً من ألم في قدميه. وهو من يجرفه حنين إلى الشَعر الأسود بعدما غزا الشيب رأسه، في قصةٍ أخرى. بل إنه يحكم على ما يجري في حاضره بخبرة الماضي. ففي قصة «ماما لا مؤاخذة»، يرى أمامه في شارع «الهرم» أولاداً يسعى كل منهم إلى معرفة اسم أمّ الآخر حتى يُعِّيره بها، فيتذكر وقائع مماثلة في قريته، «قبل عشرين عاماً بالضبط كنا عيالاً في قرية بعيدة سقطت سهواً من خارطة ريف الدلتا. لا تنشط عزيمتنا إلا حين نُمارس فنون التجسّس لمعرفة أسماء أمّهات بعضنا بعضاً، ونهدّد صاحب من أوقعه حظه العاثر في قبضة من لا يخاف الله، إما أن نُذيع الخبر فيُجلل صاحبه العار أو نبتزّه ليشتري سكوتنا بسندويتشات تعبت أُمه في تجهيزها له». وحتى حين كان الراوي في قصة «بغل من الشرق» يستعدّ لرحلة نحو المستقبل تأخذه إلى الولاياتالمتحدة الأميركية، فإنه استعان برجل من ماضيه (يوسف) الذي يقطن حياً شعبياً رثاً، وكانت شقته البسيطة ملجأ بعض الشباب اليساريين القادمين من الريف بحثاً عن فرصة في المدينة، فلما وجدوها تركوه. ثم تدخل القصص في مجال الاشتباك مع الآخر عبر الفتاتين الأميركييتين (مونيكا وجيسكا)، والرجل الإنكليزي في الطائرة، وسمسار الهوى في تايلاند، والانطباع عن باريس كمحطة عابرة لمسافر إلى الضفة الأخرى من الأطلسي، ووقوف أمام قدرات أميركا الهائلة. وهنا ايضا يحضر فإن ماضي الراوي/ البطل لا يغيب، والجذور والصورة والهوية لا تفارقه، حتى وهو يصف نفسه: «أنا الغريب»، ويشعر بالنقص حيال الآخر، وفق ما يقول في قصة «أنا وهي والدولة الإسلامية»، محاولاً أن يسحب شعوره هذا على الجميع: «عقدة النقص الكامنة فينا تجاه الأجنبيات، الأميركيات منهن خصوصاً، لا تستيقظ إلا بحضرة خصلات الشعر الذهبي والعيون الزرق إلى آخر المواصفات التقليدية لكتالوغ الأنوثة الغربي». جيسكا، الأميركية أبّاً عن جد، تلاحقه بماضيه وهويته وجذوره وانتمائه، محمولة بصورة نمطية عن العرب والمسلمين: «هل حقاً لديكم في مصر سيارات؟ هل الرجل عندكم يعيش مع أربع زوجات في خيمة واحدة وسط الصحراء؟ أين كنت وسيّاف تنظيم «الدولة الإسلامية» يطيح رقبة الصحافي الأميركي أمام الكاميرا، وماذا كان شعورك الحقيقي حين انفصل رأسه عن جسده؟ هل تشعر في داخلك بالحزن على هزيمة التنظيم في العراق وسورية؟». لكنّ مونيكا، مندوبة الخارجية الأميركية ذات الأصول اليابانية، التي استقبلته في مطار واشنطن، تعلمه أن الماضي ذهب ولا ينبغي الاستسلام لمآسيه، حين يذكّرها بما جرى بين اليابان وأميركا في الحرب العالمية الثانية، «لندع التاريخ لأهله ولا ننكأ الجراح». إلا أنّ الراوي يستعيد ماضيه، لينعم بذكريات جميلة الصورة والمعنى، تحميه وتمدّه بالعبرة، وتمنحه القدرة على فهم ما يحدث له. وهو ما تُعبّر عنه القصة الختامية، التي أعطاها الكاتب عنوان المجموعة كلها، حين يلتقي العالمان المتباعدان في الزمان والمكان والقدرة، القديم والمعاصر، القروي البسيط والمديني الغربي المعقد، فتضيع المسافات والأوقات في رأس الراوي في لحظة يتوجّه فيها إلى جَدّه كاشفاً أوجه الشبه بينهما، هو الحفيد الذي أحب إمرأة من وراء البحار وجده الذي عشق غازية من الغجر.