لا يحظى تشغيل الاطفال بالاهتمام المطلوب من قبل الجهات الحكومية ومنظمات المجتمع المدني في العراق، على رغم مطالبة بعض الباحثين في مجال الاسرة والطفل، بقوانين تمنع عمل الاطفال تحت سن الثامنة عشرة، لكن تلك الاصوات لا تجد من يهتم لهذا الامر في ظل غياب القوانين التي تصون انسانية فلذات الاكباد. ويعمل غالبية اطفال العائلات الفقيرة والمعدمة في سن مبكرة، وبعضهم يشرع في العمل قبل سن المدرسة. قرب إشارة مرور، وقفت طفلة لم تتجاوز الرابعة من عمرها، وهي تنادي على بضاعتها من الشكولاته بين مجموعة من السيارات. لكن الطفلة التي لفظت كلماتها بصعوبة تصحبها ابتسامة الطفل الذي رمته الحياة في احضان الشقاء في شكل مبكر، وهي تنادي باهتمام على العلبة التي تحملها. وهي لا تحصل على زبائنها بسهولة، لكثرة الباعة الجوالين في المكان ذاته، كما انها ترفض ان تأخذ النقود من بعض المتعاطفين معها، وتصر على اعطائهم قطعة شوكولاته من تلك التي تحملها، مقابل ذلك «العطف المادي».وتقول الطفلة التي ارتدت ملابس رثة كشفت عن ضيق حال عائلتها: «اخرج يومياً مع شقيقتي وشقيقنا الاكبر علي الى المكان ذاته لالتقاط رزقنا». وتضيف، من دون ان تفارق الابتسامة محياها طوال الحديث: «منذ ان ماتت امي، دأب ابي على احضارنا الى هذا المكان يومياً، ثم يعود الى المنزل ويأتي في آخر النهار لاصطحابنا الى المكان «الخرِب» الذي نعيش فيه، ثم يأخذ النقود منا ليشتري بها الخمر». ولم تكمل الطفلة حديثها حتى سارعت في اتجاه السيارات التي توقفت بإشارة من شرطي المرور في الجانب المقابل، لتعرض بضاعتها من جديد.ويقول علي شقيق بيداء ان والدته قتلت مع ثلاثة من اخواله وجدته، في حي الدورة على يد احدى العصابات، قبل اكثر من سنتين، وانها لم تكن تسمح لهم بالخروج من المنزل وكانت تقوم هي بنفسها ببيع بعض الاشياء البسيطة امام الخرابة التي يسكنونها في شارع ابي نؤاس، وكان والده يضربها للاستحصال على النقود واحتساء الخمر. ويضيف: «ماتت امي في شكل مفاجئ واصبح والدي يتحكم فينا. اخرجني من المدرسة، واصبحت اعمل بشكل يومي انا وشقيقاتي».طفل آخر قال انه لا يعرف عمره، كما انه لا يجيد القراءة والكتابة بسبب تركه الدراسة في سن مبكرة، وانخراطه في العمل مع والده الذي توفي في مواجهات مسلحة في مدينة الصدر، وترك الطفل يحمل اعباء عائلة قوامها 7 أفراد. ويقول: «خرجت الى العمل مع والدي الذي كان يبيع الملابس المستعملة وتعلمت منه، وبعد وفاته بدأت اعمل بمفردي فيما يساعدني خالي الذي يعمل في المجال ذاته على التزود بالبضاعة». في السوق القريب من شارع الملابس المستعملة (البالات)، تسابق اطفال آخرون في تصريف بضاعتهم من الاكياس البلاستيكية وكانوا يركضون في اتجاه كل من يقف لشراء بعض الخضر او الفاكهة. اذ توجه احد الاطفال ليضرب زميلاً له نافسه على احد الزبائن، فيطرحه ارضاً، ويلكمه قبل ان يهرب، فيطلق الطفل المضروب العنان للسانه بالسباب، وينهض مستنجداً بأخيه الذي يعمل في السوق ذاته.وبعد دقائق، يتمرغ الجميع على الارصفة في مشاجرة جماعية انتهت بتدخل احد الباعة وتهديده الاطفال بعدم السماح لهم في بيع اكياسهم، اذا ما استمروا في معاركهم الصبيانية، فسكت الجميع وعادوا الى العمل.اما الطفل الذي تعرض للضرب على يد زميله فيقول: «انا دائماً استعين بشقيقي الاكبر ليحميني من الذين يريدون ايذائي، فهو الذي يساندني هنا، ولن اتركهم يستفردون بي، وإلاّ فلن استطيع الاستمرار في العمل».ولا تحمي القوانين السائدة في العراق الاطفال من العمالة المبكرة، اذ يشير التقرير الاخير لمنظمة رعاية الطفولة في العراق، وهي احدى منظمات المجتمع المدني المهتمة بشؤون الصغار، الى أن «أكثر من 50 في المئة من الأطفال يعملون قبل سن الثامنة عشرة، فيما يمتهن نصف هؤلاء مهناً تعرضهم للأخطار». واكد التقرير ذاته «ان نسبة كبيرة من الاطفال العاملين يتعرضون لحوادث مؤذية قد تسبب لهم الاعاقة فضلا عن تعرضهم للضرب والاستغلال الجنسي من قبل ارباب العمل». ويؤكد جليل خالد، الاستاذ المتخصص في علم الاجتماع، ان الظروف الصعبة التي مر بها العراق لأكثر من عشرين سنة مضت، انتجت هيكلية جديدة لأسر عراقية، ويقول ان تزايد تشغيل الاطفال بدأ منذ تسعينات القرن الماضي، بعد تعرض البلاد لأزمة اقتصادية حادة، وظهور عدد كبير من الارامل اللواتي اعتمدن على اطفالهن في اعالة الاسرة. وطالب بوضع قوانين صارمة تحد من عمالة الاطفال وقال ان نسبة تسرب الاطفال من المدارس الى مواقع العمل تزايد في شكل كبير خلال السنوات الماضية وان غالبية هؤلاء يعانون ظروفاً نفسية صعبة بسبب تسلط ارباب العمل والخضوع الى ما تفرضه عليهم المهن من ممارسات غير اخلاقية.واوضح ان عمالة الاطفال في السنوات الماضية انتجت جيلا غير واع واعادت الأمية بنسبة كبيرة بين صفوف الشباب والفتية بين 10 و30 سنة.