بناء رواية يقتضي عدداً من هياكل الدعم. وبعضها من ضرورات الرواية. وبعضها الآخر يتولى طمأنة الكاتب وتسكين قلقه. وهياكل الدعم هي المثالات التي ينبغي النسج على منوالها أو الاحتذاء عليها. فيقول الكاتب في نفسه: ينبغي كتابة فصول الرواية على مثال «سفر الأنبياء»، أو «بهاغاداف – جيتا»، أو «سفر المزامير» ، أو «عواليس»، أو أفلام غرايس كيلي، أو «فرسان الرؤيا الأربعة»، أو نص تقديم الألبوم الأبيض (ألبوم البيتلز). وعلى الكاتب ألا ينسى، حين ينجز البناء، فك هيكل الدعم. وأعود الى الصفحات العشرين الأولى العتيدة، وأقرأها بعد أن قطعتُ أشواطاً. فإذا بها أشد حشراً من علبة سردين. وأعمد الى بعض التهوية. ويضحكني ضعف ثقتي في القارئ. فالكاتب يتولى علك المادة عوضاً من القارئ، ولا يترك ما يحسبه نتوءاً من غير تشذيبه وتهذيبه واستدراج القارئ الى تخبطه من غير عسر. وتبرز القراءة المستعادة هشاشة بناء شخوص الرواية من جمل وعبارات لغوية المباني والضرورات. وتعود بي الذاكرة الى أودراديك في أقصوصة كافكا «هم رب الأسرة». وأودراديك لا ينفك ينزل السلالم ووراءه خيط يجره، وتبدو ضحكته وكأنها تصدر عن هسيس أوراق الشجر، وليس عن رئتي إنسان يتنفس أو صدره. والصفحات القليلة التي تتناول أودراديك تسكن ذاكرتي فوق ما يسكنها شخوص صرف الكاتب 500 صفحة على رسمها. وأنا لا أعود الى قراءة كتبي التي نشرتها. وحين أحاول يغلبني الغثيان. وإذا قال لي أحدهم إنه قرأ كتاباً لي، فكأنه يقول إنه التقى بابن عم بعيد لي في مقصف بجزيرة جاوا الإندونيسية. واضطرتني قراءة «رجل الإهداء» في طائرة إلى تناول ما غيبني عن صحوي بعض الوقت. وحين زال أثر الغيبة لم يسعني المضي على قراءتي. وفاجأتني غرابة بعض ما قرأت من كتابي. ففيه صفحات لا أذكرها أبداً، ولم تخلف كتابتها أثراً في ذاكرتي. وعلى هذا، لم تثر قراءتها فيَّ ضيقاً ولا عدوانية. وحين كنت أعد هذه المحاضرة، قرأت نحو ثلثي «في الجمال». وعلى جاري العادة، انتابني الغثيان. ولكنني وقعت على فقرات بدا لي أنها تماماً ما أردت كتابته، وما أنجزت كتابته فعلاً. وهذا إحساس أوصي به الناس جميعاً. فهو شيء من الرضا والسرور الممتعين. * روائية بريطانية، عن «بروسبكت» البريطانية، 21/12/2009، إعداد منال نحاس.