يكاد الخبراء الاقتصاديون يُجمعون على أن انهيار سوق الإسكان الأميركية، الذي أطلق شرارة أزمة الائتمان في أيلول (سبتمبر) 2008، في الولاياتالمتحدة بداية ثم في مختلف أنحاء العالم، يعود إلى ممارسات ملؤها الجشع من قبل الجهات المانحة للقروض العقارية. ولو اقتصر الأمر على الجشع، لهانت المصيبة، فعودة السيولة إلى أيدي الأميركيين كفيلة بطي الصفحة. لكن يبدو أن هناك أسباباً أخرى، دفعت، بحسب أربعة من أساتذة العلوم المالية في جامعة نيويورك، الاقتصاد الأميركي إلى الهاوية. ويقدّم فيرال أشاريا وماثيو ريتشاردسون وستين فان نيوربورغ ولورنس جاي وايت، في كتابهم "فشل مضمون: فاني ماي وفريدي ماك وانهيار تمويل الرهون"، دفاعاً قوياً عن وجهة نظرهم هذه. تتلقى سوق العقارات دعماً حكومياً في الولاياتالمتحدة أقوى من أي بلد آخر في الغرب، يشمل إعفاءات ضريبية، تتراوح ما بين حسوم للفائدة على الرهون إلى تجميد للضريبة على الأرباح الرأسمالية، ويشمل أيضاً دعماً لشراء البيوت على حساب الشقق. لكن أبرز أوجه الدعم الحكومي يبقى المشاريع المرعية حكومياً والتي ضمنت بحلول عام 2009 نحو 5.39 تريليون دولار من الرهون أو امتلكتها. ليست "الرابطة الوطنية الفيديرالية للرهون" (فاني ماي) التي تعود إلى "الصفقة الجديدة" في الثلاثينات، وهي رزمة إجراءات ساهمت في إنهاء تداعيات الركود الكبير عام 1929، و"المؤسسة الفيديرالية لرهون قروض البيوت" (فريدي ماك) الأحدث عهداً، وكالتين حكوميتين تماماً، فرواتب المسؤولين التنفيذيين فيهما كانت تصل إلى ملايين الدولارات. لكنهما ليستا شركتين خاصتين بكل معنى الكلمة، فالرئيس الأميركي يعين أعضاء مجلس الإدارة في كل منهما. هما مزيج من الاثنين، وهما مليئتان بالفساد، وهما مؤسستان تمتلكان ضمانات ضمنية بدعم حكومي في أوقات الشدة، وهي ضمانات باتت صريحة حين أنقذتهما الحكومة بأموال فيديرالية في 2008. ويقدّر الخبراء الأربعة أن التكلفة النهائية لتعويم "فاني ماي" و"فريدي ماك" ستبلغ 350 بليون دولار، ما سيجعلهما الجزء الأكثر تكلفة في رزمة الإنقاذ الحكومية لقطاع المصارف. تشتري المؤسستان قروضاً سكنية وتضمنها وتسنّدها (تدعمها بسندات). وهما توجدان سوقاً ثانوية عميقة في مجال الرهون، وتنتجان رهوناً ل 30 سنة في مقابل سعر متدنٍ وثابت للفائدة، هي الرهون التي تقوم عليها الأفضلية الخاصة بالطبقة الوسطى الأميركية. وأوردت محاولة سياسيين توسيع هذه الأفضلية، النظام ككل موارد التهلكة، فعانت المؤسستان من انهيار أسعار البيوت الذي بدأ قبل خمس سنوات، لكن مؤلفي الكتاب يبرهنون أن ركوداً متواضعاً في سوق البيوت كان ليصيب من المؤسستين مقتلاً أيضاً. انزلقت "فاني ماي" و"فريدي ماك" إلى الهاوية تدريجاً، فعام 1968، حاول الرئيس ليندون جونسون إصلاح الموازنة الفيديرالية المتخمة بتكاليف حرب فيتنام وسياسات داخلية خاطئة، فخصص المؤسستين. وفهم معظم المستثمرين أن الخطوة كاذبة، إذ كان المقصود منها إخراج ديون الحكومة في مجال الإسكان من الموازنة. وعرفوا عن حق أن الحكومة ستضمن المؤسستين في حال الأزمات. ونالت المؤسستان بفضل وضعهما القانوني الخاص حوافز للمخاطرة بأموال دافعي الضرائب. وحصلت عام 1992 ما يسميه المؤلفون "رحلة اللاعودة". فعشية الانتخابات الرئاسية ذلك العام، وسع الرئيس جورج بوش الأب في شكل كبير "أهداف" المؤسستين، اللتين أصبح في مقدورهما العمل على تأمين "إسكان مقبول التكلفة"، خصوصاً في "المناطق التي تحظى بخدمات قليلة"، وهي صفة تطلقها الحكومة على المناطق التي تقطنها أقليات عرقية. وهكذا بات للحكومة دور في التعامل بالرهون الخطرة، الممنوحة لمقترضين ذوي أوضاع مادية مريبة والمتميزة بنسب عالية لقيمة القرض إلى قيمة العقار. وقاد الرئيس بيل كلينتون حملة على ما اعتبره قلة في رهون المنازل المتوافرة لمناطق الفقراء والسود، ومضى الرئيس جورج بوش الابن إلى أبعد من ذلك، فأصر على زيادة مضطردة في القروض التي تمنحهما المؤسستان لأصحاب الدخل المتدني. يعاني الكتاب صعوبة في تفسير ما يتناوله من أفكار للقارئ غير المتخصص، لكنه يتميز بتفصيل قلما يُعثر عليه في كتب أخرى تناولت الموضوع ذاته، وهو يتفحص الجوانب المختلفة لنقاط الالتقاء المشوبة بالغموض بين القطاعين المصرفي والعقاري. وبذلك يجب ألا يهمل أحد استنتاج المؤلفين بأن امتلاك الحكومة لنحو 1.4 تريليون دولار من ديون الشركتين سيشكّل مشكلة كبيرة في المستقبل. لا يعارض المؤلفون منح قروض سكنية لأصحاب الدخل المتدني، لكنهم يعترضون على تشجيع القروض المضمونة برهون سبيلاً إلى ذلك. فعام 2007، شكلت الرهون الخطرة 22 في المئة من محفظة المؤسستين، بزيادة 10 أضعاف عنها قبل 10 سنوات. مر زمن طويل قبل أن تظهر تداعيات قرارات عام 1992 في هذا الصدد، إذ غطى ارتفاع أسعار المنازل القرارات السيئة التي مُنح على أساسها قسم كبير من الرهون. ويشدد الكتاب على أن الرهون الخطرة لم تكن فكرة طيبة انحرفت عن مسارها أو غرقت في الإفراط، بل كانت فكرة خاطئة منذ البداية، "فما أن قررت المؤسستان خفض معايير الإقراض لديهما، لم يعد ثمة سبيل للعودة، وما أن بدأت أسعار البيوت بالتراجع، حتى رُسم مصيرهما القاتم".