لا مكان في سورية، اليوم، لصوت ثالث، أو لموقع وسطيّ، معتدل ومتوازن ومنطقي. ذاك أن الغريزة، أو الغرائز المختلفة، هي التي تتحكم بمجمل سلوك السلطة، وبآراء الناس العاديين وغالبيتهم الصامتة. وهناك من هو واقع في أزمة عاطفة وطنيّة أو أزمة موقف وطنيّ إذا صحّ الكلام، فهو ليس من المعجبين بالسلطة والنظام القائم، كما يزداد رفضه لكثير مما يحصل في الشارع يوماً بعد يوم، وجمعة بعد أخرى. والحال أن السلطة قد استنفرت أدواتها، الإعلامية والحزبية والإدراية، لاستفزاز القلق الوجودي عند الناس، وجعلهم يتوسّلون حال الأمن والأمان، هذه النعمة التي كانوا يعيشون فيها من دون أن يشعروا بقيمتها! وبالتالي خلق مزاج معادٍ ورافض للتحركات المطلبية، الموصوفة بالمحقّة وفق رأي السلطة نفسها. بينما لم يكن خطاب الشارع المطلبي موحداً، ولا خالياً من عناصر عملت على إيقاظ الكوابيس الطائفية والمذهبية، النائمة والكامنة تحت رماد التاريخ السوري الحديث. فتمت المناداة للجهاد من على منابر الجوامع المحسوبة على السّنّة، وتم الهتاف بشعارات إقصائية وكارهة للعلوييّن في بانياس، في حين لم تخلُ صفحات ال «فايسبوك» من هذا المناخ المذهبي والعنيف. يقول أحدهم: «علينا إخواني أن نضرب بيد من حديد... ادخلوا مراكز الشرطة التي بدأت تخاف من خيالها اضربوا الجيش... اضربوا المصالح العامة لتعطيل الحياة فليس لدينا أمل إلا بهذه الطريقة في ظل تخاذل الحلبيين والدمشقيين (أبناء المدينة)». ثم يقول إنه شاهَد «دماء الأبطال تهدر على أيدي هؤلاء الخونة الكفرة». على أن المصيبة ليست في هذا الانقسام العمودي فقط، بأبعاده العنفيّة والمذهبيّة. ذاك أن بعض مثقفي البلاد المحترمين، أخذوا يمجّدون كل الحاصل على الأرض من دون تمييز وتدقيق. ثم بدوا وكأنهم قد فوجئوا ببعض ما حصل في الشارع: «هذا مؤسف. كانت الانتفاضة نظيفة عموماً. وينبغي أن تبقى. تفوقها الأخلاقي هو سلاحها الأقوى»، يقول أحدهم متفاجئاً. وباستثناء ما جرى في درعا، وما جلبه من عار على السلطة السورية، كانت أحداث اللاذقيّة وبانياس وحمص حافلة، للأسف الشديد، بخطاب طائفي ومذهبي بشع وكريه، وقد استفحل هذا الخطاب وتطوّر إلى ممارسات مذهبيّة واضحة وفجّة، تمثّلت في قتل أفراد ينتمون إلى الأقليّة العلويّة خصوصاً، عبر الإيقاع بهم وقطع الطرق عليهم، ومن ثمّ التمثيل بجثثهم، فاستخدمت السواطير والسكاكين، وقطّعت الأطراف البشرية وشوّهت، وتمّ تصويرها بدم بارد. وقد غطّى هذا السلوك على كل شخص نزل «سلميّاً» إلى الشارع، وهؤلاء ليسوا قلّة. والحال أن النظام يتعامل مع المرحلة الراهنة على طريقة «إما معنا أو معهم»، في وقت ما زال ينكر فيه حجم المشكلة الحالية، ولا ينظر إليها على أنها أزمة وطنيّة حقيقية، تتعلق بمصير البلاد ومستقبلها، وذلك بإصراره على نظرية المؤامرة وتثبيت فكرة أن ما يحصل هو نتيجة لها، وليس أن المؤامرة - وكل بلاد الأرض تحاك ضدها المؤامرات - قد استفادت واستثمرت في أزمات المواطنين ومشاعرهم. وليس أن المؤامرة، إذا سلمنا بها جدلاً، قد لعبت على أكثر الأمور حساسية عند الناس. ولا يبدو أن النظام السياسي في سورية يصدق حقيقة أن دود الخلّ منه وفيه، وأن إهماله المتراكم والمتعالي للسياسة الداخلية، وعدم إيلائها أي أولويّة بينما هو منشغل في محاربة المؤامرات، هو السبب في نفخ النار الكامنة تحت ذاك الرماد السوري. وهو لا يبدو، من ناحية أخرى، مدركاً إحدى أهم مميزاته عن بقيّة الأنظمة السياسية العربية المشابهة في السلوك والتفكير، وهي وجود مزاج شعبي واسع وعريض كان يفصل بين مكوّنات هذا النظام، وينظر إليه بطريقتين متناقضتين، سلبية إلى أجهزة النظام الأمنية والى الرأسماليّة وأسماء قادتها، وإيجابيّة إلى شخص رئيس البلاد. ولئن نجح النظام في حشد الناس وتقسيمهم، بين من معه أو ضده، لا بين من يريد التغيير ومن يريد الفوضى، فقد بدأت نُذر الطائفيّة في المقابل تطفو على قسم واسع من الشارع المتحرك. وهي أخطر بكثير من دعاية «التنظيمات السلفية» التي روّج لها الإعلام الرسمي أخيراً. ذاك أن أي تنظيم من السهل تعقّبه ومعرفة حدوده وحجمه، بينما يصعب تقدير حجم معتنقي أفكار تتقاطع وتتماهى مع أفكار وممارسات تلك التنظيمات، وهو ما يحصل الآن في أغلب الظن. خلاصة القول إن الشارع والسلطة معاً، لا يقبلان رأياً كهذا، يدينهما معاً، ويفنّد أخطاءهما ويرفض الذهاب معهما إلى المجهول الوطني. هكذا، ببساطة وبعدم اكتراث، قد تتصدّع الروابط العائلية والأهليّة، فيحدث الشقاق والفراق بين الأخ وأخيه، وصاحبته وبنيه. فلا يجد مكاناً له في وطنه ولا يقبله أحد، في حين أن من وضعوا البلاد في الخطر مكانهم محفوظ... في الجهتين. * كاتب وصحافي سوري