في الرواية الأولى للكاتب المغربي سعيد خطيبي «أربعون عاماً في انتظار إيزابيل» (منشورات ضفاف وَ الاختلاف، 2016)، تطالعنا شخصية محورية تحمل اسم جوزيف رينشار، أو الحاج جوزيف كما ألِفَ الناس أن يدعوه بعد أن استقر في الجزائر وناضل في صفوف جيش التحرير، وأعلن إسلامه واختار العيش مع صديقه سليمان الذي تعرف إليه عندما كان يقود كتيبة خلال الحرب العالمية الثانية، وجاء ليعيش معه في البيت ذاته سنة 1951. وجوزيف نذر نفسه لمحاربة النازية في وطنه، ثم الاستعمار في الجزائر لأنه يراهن على القيم الإنسانية، ويمارس فن الرسم ويحلم بأن تتحقق الثورة في الجزائر، بعد أن فشلت في فرنسا... وينطلق نص الرواية بعد أن أمضى جوزيف أربعين سنة في مدينة بوسعادة رفقة صديقه الحميم سليمان، وقد أدركتْه الشيخوخة وتراكمت عناصر الخيبة والتشاؤم، بخاصة بعد أن تأكد صعود التيار الإسلامي المتطرف. لم يجد ما يتشبث به ليقاوم الشيخوخة وخيبة الأمل سوى ممارسة الرسم والتفاعل مع كتابات إيزابيل إيبرهارت، تلك المستشرقة المسترجلة، التي دُفنتْ في بوسعادة وخلفت صفحات مثيرة يتكئ عليها في انتظار عودته هو وصديقه سليمان إلى بيته القديم بإحدى ضواحي باريس... لكن ما يسترعي الانتباه في «أربعون سنة في انتظار إيزابيل» هو طريقة السرد وتعديد مستويات اللغة، ما أضفى على شكل النص نكهةً مميّزة تُولّد إيحاءاتٍ لوْلبيّة. وإذا كان النص ينطلق من «حاضر» يُحيلنا على قُرب رحيل جوزيف وسليمان عن الجزائر، فإن الصفحات الأخيرة من الرواية هي التي تكشف لنا سرّ كتابتها على هذا النحو وباللغة العربية، ذلك أن السارد الحاج جوزيف يحدثنا عن علاقته القديمة بوالدِ كاتب الرواية «سعيد خطيبي»، سي لخضر خطيبي، الذي تعرف إليه قبل موته وكان ابنه حينئذ طفلاً صغيراً، وقد سعى إلى التعرف إليه في باريس واتفق معه على أن يسلمه مخطوط سيرته هذه، لينقحها وينشرها... والعنصر الثاني الكامن وراء كتابة هذه الرواية /السيرة،هو أن جوزيف عثر على مخطوط للرحالة إيزابيل إيبرهارت (1877-1904) وجَدَ في صفحاته ما حرّضه على المقارنة بين مساريْن مُتباينيْن ودفعه إلى رسم لوحاتٍ «تُترجم» ما عبرتْ عنه في مذكراتها... على هذا النحو، تتخذ الرواية منحى أفقياً لا يتقيّد بالسرد الطولي، وإنما يلتقط مشاهد وذكرياتٍ ومحكيات تحاصِر ذاكرة جوزيف وهو يتأهبُ للعودة إلى بلاده فرنسا اتقاء لعدوانيةٍ دينية متطرّفة. يمكن القول إذن بأن الرواية تنطلق من لحظة الشعور بالهزيمة، لأن صفحاتها الأولى تصور جوزيف وقد وجد نفسه صفر اليديْن، فهو لم يجْنِ شيئاً بعد أن أسهم في تحرير بلاده من النازية، ثم خاب أمله في ثورةٍ رَاهَنَ عليها لتصحيح قيم التحرير والعدالة والأخوة. من هنا اتخذ بناء «أربعون عاماً في انتظار إيزابيل» شكلَ اعترافاتٍ يُفضي بها ثوريّ مُنهزم عبْرَ مشاهد ووقائع تستحضر المسار الذاتي بتفاصيله، وفي الآن نفسه تشير إلى خيبة العالم الثالث الذي انحرف عن طريق التغيير الثوري وغاصَ في حمأة التعصب الديني والاستبداد العسكري...لكن الأهم، في الرواية، هو شكل السرد الذي يحتفي بالتفاصيل ويُبرز وقائع وعلائق لها طابع ذاتي مرتبط بذاكرة السارد، قبل أن تأخذ طابعها التخييلي. وفي هذا المنحى، يمكن القول إن استحضار إيزابيل المغامرة الأسطورية، قد جعل المقارنة بينها وبين شخصية جوزيف عنصراً إضافياً في تجسيد الفروق واختلاف الطبائع... الزمن، الفن والهزيمة ابتعادُ رواية «أربعون عاماً في انتظار إيزابيل» من السرد الكلاسيكي، الخَطّي، هو ما يُضفي عليها حلة من الالتباس تُبْعِد الحاج جوزيف من نطاق الشخصية الروائية العادية وتنقلها إلى مستوى البطل الإشكالي الذي لم يعد يجد نفسه ماثلة في قيَم التبادل المُمعنة في ابتذال أهداف الثورة الجزائرية التي راهنَ عليها هو، الفرنسي الحالم بتجسيد أهداف ثورة 1789 على أرض الواقع. ولعلّ أهم عنصر في شكل الرواية ساعَدَ على تعميق البُعد المأسوي والإشكالي في تجربة الحاج جوزيف، هو عنصر «الوساطة» الذي تذرّع به الكاتب، إذ جعل نص الرواية يتحقق عبر رسم جوزيف لوحاتٍ يستوحيها من مذكرات إيزابيل إيبرهات، وعبْر كتابة أولية يسلمها لكاتبٍ يُطابق اسمُه اسمَ الكاتب سعيد خطيبي، ليتولى إعادة كتابتها وإعطاءها شكلها النهائي بما في ذلك ترتيب السرد وتنويع اللغة... بعبارة ثانية، أصبحت الرواية، في الشكل الذي وصلتنا عليه، تحتوي على مستوييْن للقبض على التجربة: مستوى فينومينولوجي ينقل الأحداث اليومية لحياة جوزيف وسليمان في مدينة بوسعادة، ومستوى تأملي، تخييلي، يصلنا عبْر تسريبِ ذكريات ماضي جوزيف، وعبْرَ استحضاره المتخيّل لمغامرات إيزابيل في سياق وزمن مُغايريْن: «كانت بنتاً مُسترجلة، تُضاجع الذكر والأنثى، لا تكتفي بجنس واحد. تلبس هويتيْن في جسد امرأة وتغيرهما وقتَ الحاجة. تعبر الشوارع والساحات في هيئة رجل، وتختلي بنفسها في بيت أو في ماخور، كامرأةٍ مُكتملة المفاتن. لستُ أجد لها شبهاً سوى في جارتنا لالة السعدية التي تتحول، في أي لحظة وبسهولة، من امرأة إلى رجل ومن رجل إلى امرأة...» (ص43). في اعتقادي، أن هذا السرد عبْر «وساطة» عناصر أخرى مستمدة من الذاكرة والكتب واللوحات والأمثال الشعبية التي يتكلم سليمانُ من خلالها...، هو ما أتاح للرواية أن تنفتح على أسئلة تتعدّى رصد َحياة بطلٍ مُنهزم إلى تأمّلِ تجربته في مرآة العلاقة بالزمن والفنّ، بحثاً عن معنىً يعلو على ما هو كرونولوجي، عابِر: «الخسائر تكبُر وتنمو معي. خسائر جسيمة وأخرى صغيرة لأصدقاء وأحبّاء بعضهم هجرتُه، وبعضهم الآخر هجرني. صرتُ لا أحزن كثيراً مثلما كان يحصل معي في السابق. لكني أشعر بمرارة تسكنني كلما تذكرتُ وجوهاً جميلة مرّتْ في حياتي ثم اختفتْ. سليمان الذي لم يعرف في حياته صديقات، يقول لي: - اللي فات ماتْ». (ص 79). وإذا أردنا أن ندفع التحليل إلى ما هو أبعد، يمكن القول بأن المقارنة المُتخللة للنصّ، بين حياة جوزيف وحياة إيزابيل إيبرهات، تضعنا أمام سؤال يقضّ مضجع جوزيف، وهو شعوره بضياع حياته الملتزمة بقيمٍ أخلاقية تراهِن على تغيير المجتمع، بينما «نجحتْ» إيزابيل التي اختارت المغامرة وتحقيق الذات الآن وليس غداً، مُستجيبة لنداء الفرد المُتحدّي للمؤسسات وللأخلاق السائدة... إن الحاج جوزيف في رواية «أربعون عاماً في انتظار إيزابيل» يُحيلنا على نموذج البطل الذي يحترف الثورة ويُراهن على نجاحها في مكانٍ ما على وجه البسيطة، إن لم يكن في فرنسا ففي الجزائر. وبالفعل، نجد أن الخلفية التاريخية لكفاح الجزائر ضدّ الاستعمار الفرنسي الطويل الأمد، قد أفرزتْ نماذج بشرية مشابهة للحاج جوزيف في مجال الممارسة النضالية، وأيضا في روايات فرنسية أو عربية استوحت تلك الفترة من نضال شعب الجزائر. وعندما نتذكر المكانة التي احتلتها الجزائر بعد استقلالها، ضمن مسيرة شعوب العالم الثالث نحو التحرر وبناء مجتمع العدالة والتقدم، ندرك الشروط التي مهدتْ لظهور نموذج « الثوري المحترف» أو الدائم، باعتباره بطلاً مُناهضاً للممارسة الاستعمارية التي طبقتها دول أوروبية كانت من قبل مهداً لقيم التنوير وحقوق الإنسان... على ضوء هذه الملاحظات، تبرز دلالة الخيبة والهزيمة في رواية «أربعون عاما في انتظار إيزابيل»، وكأنها تدق ناقوس نهاية أوهام «الثورة الدائمة» التي طالما داعبتْ أحلام الجيل الذي ينتمي إليه جيْلُ جوزيف وسليمان. تبددت الأحلام وعوضتها الوساوس والفسولة وعياءُ الشيخوخة: «لو عادت إيزابيل إلى بوسعادة اليوم لكتبتْ شيئاً مختلفاً، فهذه المدينة صارت ملكة صهباء مُنتهكة الشرف، تنام على حافة الوادي كي لا تنظر إلى نفسها ولا ينظر إليها المارّون. أشجار اللوز فيها يبستْ أوراقها وسُلب منها عطرها، وهي الآن تقف على بُعد أمتار قليلة من الهاوية، تخاف أن تستيقظ يوما وتجد نفسها مدينة ً مخصية بلا فحولة» (ص 89). كثيرة هي الروايات العربية التي تستوحي سلسلة الهزائم التي تعيشها المجتمعات في الفضاء العربي منذ الاستقلالات الممهورة بدماء المقاومة، إلا أن رواية سعيد خطيبي تتدثر بتلك النكهة الخاصة التي أعطت للشكل طابعاً سردياً جاذباً وأفسحت لِلُغة الكلام حيّزاً أضفى على النصّ تضاريس تعبيرية إضافية جعلتْ من الهزيمة، في معناها العميق، أفقا يتهدّد الجميع لا فرق بين شمال وجنوب: « لقد هجرت بلدي ولم أعد أعرف عنه شيئاً، مثل إيزابيل التي لم تعرف شيئاً عن بلدها الأصلي روسيا. لستُ أعرف فعلاً ماذا يحصل وراء البحر، ولا كيف يعيش الناس، ولا سعر الخبز أو سِعر الكيلو غرام الواحد من البطاطا أو السُّكر. نسيتُ حتى شكل صوامع الكنائس ولَكَنات البشر في الشارع. أنا فرنسي بلا انتماء، ليس يربطني بوطني الأم سوى بطاقة هوية، ومن المؤكد أنْ لا أحد سيتعرف إليّ عندما سأعود» (ص 141).