بدعوةٍ من دار هاشيت–أنطوان/نوفل، اجتمع أدباء ومثقفون وصحافيين لبنانيين في معرض بيروت العربي الدولي للكتاب، لتقديم تحية الى روح بسام حجار (1955-2009) المترجم والشاعر. وذلك لمناسبة صدور الترجمة التي أنجزها قبيل وفاته عام 2009 لرواية «أزاهير الخراب» للروائي باتريك موديانو الحائز جائزة نوبل للآداب عام 2014. وتحدّث في اللقاء أصدقاء بسام حجار أو «أهل البيت»، وهم الكتّاب عباس بيضون وحسن داوود ويوسف بزي وفادي طفيلي. فكان اللقاء حميماً جمع أصدقاء حجار وعائلته كما كان يحبّ، فهو لم يبتعد من الصخب والاحتفالات الضخمة ويفضّل جلسات البيت الأنيسة مع الأصدقاء والكتب أكثر من أيّ شيء آخر. بدأ اللقاء بكلمة للزميلة رنا نجار التي أدارت الندوة قائلة: «نحتفي اليوم بمبدعين (حجار وموديانو) اكتشفنا وجود قواسم مشتركة بينهما، لا تبدأ بخصوصية شخصيتيهما ولا تنتهي عند اهتمامهما بأدب المكان. وبما أن حجار كان قارئاً نهماً وكانت الترجمة بالنسبة إليه متعة قبل أن تكون مهنة، لا نستغرب ان يكون ترجم أزاهير الخراب، للمتعة، بعدما استمتع بقراءتها». وأكدت نجار أن «حجار أغنى المكتبة العربية بعشرات الأعمال الأدبية والفلسفية المعرّبة ذات الخصوصية العالية. فالترجمة عنده هي فعل مزاج وتعبير ذاتي كالكتابة والتأليف تماماً. ليست ترجماته عملاً تقنياً يقتصر على تعريب نص، بل فيها روح ومتعة تنتقلان الى القارئ من خلال المترجم. ولم يترجم عملاً تجارياً من تلك الأعمال التي تحقق أعلى المبيعات وأصحابها مشهورون، بل كان صاحب مشروعٍ يحلّ الخيار والذائقة والمعرفة الثقافية في موضع متقدّم منه». وقالت: «كانت مروحة خياراته متنوعة وواسعة، وأنا من جيلٍ يدين له بتوسيع الأفق الأدبي أمامه وتعريفه مثلاً بالكاتب البلجيكي جورج سيمونون، والفيلسوف الألماني مارتن هايدغر، وسليم تركية وطاهر بن جلون، والأميركي NORMAN MAILER صاحب كتاب «مارلين»، واليابانية BANANA YOSHIMOTO، والكاتبين الايطاليين أومبيرتو إيكو وإيطالو كالفينو، والأرجنتيني خورخي لويس بورخيس. وتحت عنوان «بسام حجار أو كيف نمدح الخائن» تحدث يوسف بزي الذي زامل الراحل في ملحق نوافذ في جريدة المستقبل الذي نشر فيه المحتفى بذكراه سلسلة طويلة من المساهمات والكتابات، «المدهش فيها هو كمّ النصوص المترجمة ونوعيتها». وتساءل بزي: «هل من جريدة أو «موقع أنترنت» يتيح اليوم مساحة لنشر هكذا نصوص؟ هل من مؤسسة صحافية راهناً «توظف» مثقفاً كي يمارس مزاجه ويختار ما هو مهم للقراءة والترجمة؟». وأجاب: «لسوء الحظ، ما كان سائداً قبل سنوات قليلة فقط، صار فجأة كأنه من ماض سحيق». وقال: «إذا أردنا جمع ما ترجمه بسام حجار في الصحف التي عمل فيها: السفير، النهار، الحياة، المستقبل، إضافة إلى ما نشره في المجلات الثقافية الكثيرة، فإننا سنقف أمام إرث كبير مبعثر، وغير منظور الآن. مع ذلك، أتجرأ على القول إن جهد بسام حجار ما زال ماثلاً في رصيد المعرفة التي اكتسبها قراؤه. فنحن كجيلين أو ثلاثة أجيال ندين بثقافتنا ومخزون اطلاعنا لنمط من الصحافة المكتوبة كانت تولي عناية خاصة لما نسميه فن «الكتابة والترجمة». وأضاف بزي: «أدعي هنا، أن واحدة من أكثر المهمات الجليلة التي اضطلع بها أمثال بسام حجار، في بيروت خصوصاً، هو إدخال الأجنبة والعجمة والهجنة إلى لغتنا وثقافتنا. كان حجار يدرك خطورة ما يقترفه، بل إنه نشر كتاباً بعنوان «مديح الخيانة»، يكتب فيه مسوغات سعيه المتمادي في الترجمة بوصفها أصل كل ممارسة ثقافية وكل كتابة». وختم: «ربما مات بسام حجار أقل حسرة منا، لأنه رحل قبل أن يموت في الصحافة «فن الكتابة والترجمة». أما حسن داوود صديق الكلمة والمشاوير الطويلة، فتحدث عن شخصية المترجم التي هي جزء من حجار قائلاً: «كان قلم الرصاص، مع ملحقاته، مناسبا لاستغراقه في الترجمة، حيث المحو هنا يمثّل إعادات نظر متكرّرة بما تكتب اليد السريعة. وكنا، نحن أصدقاؤه، نقول إن سرعته في الترجمة تشبه سرعة القراءة، أو نهم القراءة عند القارئ المفتون بما يقرأ. كما كنا نتساءل كيف يمكن له أن يجمع بين السرعة في الترجمة وهذه الصياغة، الدقيقة والجميلة معا. في أحيان كان يبدو ذلك مذهلا، كأن يترجم كتاباً في شهر مثلاً، ولتبيّن كم كانت الحصيلة رائعة يكفي أن نقرأ صفحات من ترجمته لكتاب إليكسيس دو توكفيل عن الديموقراطية في أميركا، الكتاب المرجع في حقول علمية عدّة، والمكتوب بنصيّة أدبية رفيعة تميّز بها أسلوب ذلك الرجل». وأضاف داوود: «كثيراً ما يخطر لي أن أخرج كتاب دوتوكفيل هذا من رفّه على المكتبة، اشتياقاً لرفعة لغته ولسيولتها، واستحضارا لبهجة بسام فيما كان يحّلق، كما طائرة على علوّ مرتفع بما يكفي لكي يرى العالم قريبا لكن من الأعلى، متنقلاً فوق جغرافيا أمعن دو توكفيل في وصف تفاصيلها. ذلك الشعور بالانسياب وحب القراءة هو ما تأخذنا إليه ترجمة بسام. فلنتذكّر ما قرأناه من روايات جاءنا بها قلمه. ولنستعد الآن ما كنا نقوله، مع صدور كل رواية جديدة: لولا بسام لكانت متابعتنا لروايات العالم فقيرة». ثم ألقت رنا نجار كلمة فادي طفيلي الذي لم يتمكن من المجيء من هولندا مكان إقامته. وكتب طفيلي عرّاب مشروع ترجمة «أزاهير الخراب»: «قبل أشهر قليلة من رحيله في شباط عام 2009، أودعني الصديق بسّام حجّار مخطوطاً لكتابٍ كي أقرأه وهو كان أنجز ترجمته في ذلك الحين. «مخطوط» بالمعنى الحقيقيّ والتقليديّ للكلمة. رزمة من أوراق دفتر كبيرٍ سوّدها بخطّ يده الدقيق والجارح والذي ينغرس عميقًا في عروق الورق. لم أكن قد قرأت من قبل باتريك موديانو. والأخير لم يكن حظي بالشهرة التي نالها مع فوزه بجائزة نوبل عام 2014. كنت أحادث بسّام آنذاك باستمرار عن الأمكنة والبيوت والسّكن والهجران والظلال والبقايا، وما يعكسه كلّ ذلك على السرد والحكايا والصور التي نكتبها. كنت في ذلك الوقت، كما دائماً، أهجس بتلك العناصر التي تحيطنا بوجودها الخفر والآسر معاً». وأضاف طفيلي: «كان بسّام مولعاً بالبيوت، أو بالأحرى ببيته تحديداً. البيت جنّته وعالمه الشاسع. ولم يكن ينافس ولعه المنزليّ ذاك، سوى هاجسه الدائم في الكتب والقراءة والكتابة التي كانت تومض أكثر ما تومض له داخل بيته وفي أرجائه. نشاطه المفضّل حين يكون خارج البيت كان الاستعداد للعودة إلى البيت، و «التموّن»، كما كان يقول ممازحًا، بحاجيّات المتع البيتيّة التي تحتلّ الكتب جزءاً أساسيّاً منها». وغاص طفيلي بتعلق حجار بفكرة البيت الحميمي وتحويل مكتبه والباص الذي يقلّه الى بيت مؤقت يقرأ فيه ويفكر ويحلل. وختم: «بسّام في تلك الفترة التي ترجم فيها «أزاهير الخراب»، هذا الكتاب الحافل بالأمكنة التي أنسنها الزمن ونسج من مآلاتها ومصائر أشخاصها عوالم حكائيّة لا تنضب، كان في ذروة ولعه بمكان حياته الخاصّ والداخليّ. هو ترجمه في أيّام تجلٍّ بيتيّة. لم يوقّع عقد ترجمة مع أحد، ولم يحادث أحدًا في أمر نشره. ترجمه للمتعة الخالصة ومن أجل البيت. وهو قبل أن ينتقل إلى بيتٍ آخر سلّمني هذه الأمانة التي تنشر اليوم كذكرى منه وتحيّة وفاء منّي ومن عائلته. وعسى يا صديقي أن يكون بيت الموت الذي حللت فيه بيت سلام». وكان الختام مع عباس بيضون الذي قال: «هي المرّة الثانية في أقلّ من سنة أشارك فيها في ندوة موضوعها بسّام حجّار المترجم، في حين أنّ بسّام الّذي كان بالتأكيد من خيرة المترجمين، ليس فقط مترجماً بل كان بالمقدار ذاته، وربّما أكثر، شاعراً بين ألمع شعراء جيله وأكثرهم موهبة وأشدّهم تفرّداً، كما كان من المثقّفين النادرين. وبالطبع لم يكن حجّار صاحب ثقافة طنّانة وخطابيّة كما هو شأن معظم مثقّفي وقته الّذين يتلبّسون الحقيقة ويعلّمونها ويصرخون بها. بسّام الّذي يعتزل الجمهور والتظاهرات، كان يملك الحسّ الّذي يستشفّ الأشياء ولا يضيع في معمعتها وهديرها، الشاعر الّذي لا يقيم فاصلاً بين الشعر والفكر والحياة اليوميّة والّذي كانت حياته نفسها تلّمساً خفيّاً للحياة وحواراً معها. لم يكن فقط مترجماً والحاجة لمترجم ناجح في ثقافتنا قد تكون أقوى وأفعل من الحاجة لباحث متعجّل وواعظ يدّعي أنّ في يديه زمام الحقيقة. إلاّ أننا لانهوّن من شأن المترجم إذا قلنا إنّ بسّام حجّار لم يكن فقط مترجماً». واعتبر بيضون أننا «لا نهوّن من شأن المترجم ولا الترجمة إذا قلنا إنّ بعضاً من أجمل كتابات بسّام حجّار وبعضاً من أجمل شعره موجود في ترجمته، أو إذا قلنا إنّ مهنة بسّام الحقيقيّة أو الأولى كانت مهنة القارئ وأنّه في معظم كتابته على الأقل، كان يمارس بمتعة واستئناس مهنته هذه الّتي بالتأكيد كانت نور حياته. ترجمته هذه كانت قطعاً مهنة أصيلة، كما كانت قراءة منظومة وشفّافة، كانت عملاً يوميّاً وجزءاً من يوميّاته». لكنّ بسّام حجّار، وفق بيضون، «لم يكن فقط مترجماً، كان قارئاً في ترجماته كما في كتابته، تستحقّ ترجمة بسّام مبحثاً مستقلاً، ليست ترجمة بسّام وحدها بل الترجمة كفعل أساسيّ في ثقافتنا وفي لغتنا اليوم، إذ لا ننسى أنّنا نكتب ونتكلّم اليوم بلغة استمدّت كثيراً من الترجمة، وهي أحياناً صياغة عربيّة لكلام أجنبيّ ألفناه حتّى نسينا أصله».