لا تخلو قراءة العدد الجديد من مجلة «الكتابة الأخرى»، من المتعة المشوبة بالحماسة، فالعدد الذي حمل عنواناً شاملاً هو «كتاب الثورة» يضع القارئ وجهاً لوجه أمام نصوص كتبها روائيون وشعراء وصحافيون مصريون من قلب الحدث الرهيب الذي شاركوا في صنعه، كل على طريقته. خرج الكاتب المصري هشام قشطة الموصوف بالفوضوي والهامشي عن طوره، وجمع هذه النصوص متعاوناً مع بضعة من أصدقائه وخصها بعدد من مجلته غير المنتظمة في صدورها. ولئن بدا هذا العدد على قدْر من العفوية والارتجال تبعاً لمرافقته الحدث، فهو كان سبّاقاً في رسم «الإطار» الثقافي والأدبي لثورة 25 يناير من خلال شهادات المثقفين والكتّاب أنفسهم. تختلف الشهادات والمقالات بحسب الاختلاف بين الكتّاب أولاً ثم بحسب اختلاف مواقعهم، سواء داخل الثورة أم على هامشها. وقد نزل معظم هؤلاء الى الشوارع والساحات وتظاهروا واعتصموا وهتفوا وواجهوا خراطيم المياه والهراوات وسواها، وخبروا عن كثب معنى «النزول» الى الشارع ومعنى المشاركة في صنع الثورة على الأرض وليس نظرياً. بعض النصوص بدت عفوية جداً ونضرة نضارة هذا الحدث في كونها وليدة تلك اللحظات الرهيبة التي عاودت صنع التاريخ وقلبت معايير الواقع الذي كان راهناً. وبعض آخر من هذه النصوص غدت كأنها تستعيد الحدث لتتأمل فيه وتحاوره... بضعة كتّاب شاؤوا أن يكتبوا ما يشبه «اليوميات» مسجلين فيها انطباعاتهم ومشاعرهم بصراحة وكتّاب آخرون آثروا أن يجعلوا من مشاهد الثورة حكايات ولقطات بصرية يروون فيها ما شهدوا وعاشوا. لعل أهم ما تمثل هذه النصوص أنها نماذج حية عمّا يمكن أن يُكتب في ساحة الثورة. في هذه اللحظات لا يستطيع النص أن يجامل أو يبالغ. إنها الكتابة من دون قناع. الكتابة التي هي ابنة لحظتها، صارخة وعاصفة حتى وإن اعترتها ركاكة التسرّع في أحيان، مجروحة ومألومة ولكن غير محبطة، بل ملؤها الأمل، الأمل الذي لا يمكن التخلي عنه في مثل هذه اللحظات الحرجة. لم يكن لدى معظم هؤلاء الكتّاب مزيد من الوقت ليقرأوا الحدث عقلانياً ويقاربوه ثقافياً. إنهم كتبوا الحدث كما عاشوه، بصفائه وبراءته وعنفه المسالم. لم يبحثوا عن معادلات له، لغوية أو سردية، كتبوه كما هو، بل جعلوه هو يكتب نفسه بأقلامهم. يُقرأ عدد «الكتابة الأخرى» بمتعة حقيقية. يشعر القارئ بما يشبه الفضول وهو يقلّب صفحاته، يبحث عن كاتب يحبذه ليتيقّن أنه كان هناك وأنه كتب، أو يتحرّى الأثر الذي تركته الثورة للحين في نصوص كاتب اعتاد أن يقرأه... كان هؤلاء الكتّاب في الميدان، كانوا في معترك الاحتجاج والرفض والتظاهر. رفضوا أن يتابعوا مشاهد الثورة عبر الشاشات وكأنهم غرباء عنها أو مجرد متفرجين. إبراهيم عبدالمجيد، عبدالمنعم رمضان، عزت القمحاوي، محمود قرني، سلوى بكر، شيرين أبو النجا، فريد أبو سعدة، محمود الورداني، مكاوي سعيد وسواهم وسواهم... ولا يمكن أيضاً تناسي الكتّاب الذين شاركوا في الثورة ولم يكتبوا أو شاؤوا أن يتريثوا في الكتابة. علّهم يقعون على حجارة ثمينة في منجم الثورة. كم تمنيت عندما كنت أشاهد التظاهرات في مصر على الشاشات أن أشارك فيها، أن أضيع في وسط الجموع وأن تجرف الهتافات صوتي. كانت تلك لحظات تاريخية، نادراً ما تحصل ونادراً ما يعيشها المرء بحذافيرها. وهذا التمني الذي يخالج الكثيرين ينسحب أيضاً على مشاهد الثورات المتوالية في تونس وليبيا واليمن وسورية... لا يستطيع المثقف العربي أن يبقى على الحياد. هذه اللحظات التي كثيراً ما حلم بها يجب أن يشارك في صنعها. وهذا ما فعله المثقفون في تونس وما يفعله المثقفون في ليبيا وسورية وإن في طريقة خفرة أو سرية خوفاً من بطش السلطة و «بلطجيتها». هذا أيضاً ما فعله المثقفون المصريون، جهاراً ومن دون خوف ولا تردد. لقد فضح هؤلاء تقاعس المثقفين الرسميين و «البرجعاجيين» والمهادنين واللامبالين... كسروا الصمت ونزلوا. تخطوا جدار «الترهيب» ونزلوا... «كتاب الثورة» الذي شاءته مجلة «الكتابة الأخرى» عدداً خاصاً ب «الحدث» المصري سيظل أجمل وثيقة عن الثورة، في وجهها الآخر، وجهها العفوي والنضر، وجهها الثقافي والأدبي والشعري. إنها الثورة في لحظة تحوّلها نصاً، الثورة في تجلياتها السردية والشعرية وفي أبعادها التي لا تُحصر وآثارها المحفورة في الذات، فردية وجماعية. والأمل، كل الأمل أن تنبثق من الثورات الأخرى التي تخوضها عواصم ومدن عربية عدة، نصوص مماثلة، صادمة وصارخة وغير ملطخة بالدم. إنها كتب الثورة الحقيقية، الثورة التي تظل بيضاء مهما عراها من قتل. إنها كتب الثورة التي هي أولاً وأخيراً رديف الحياة، الحياة التي لا بد لها أن تنتصر مهما خيم من ظلام وظلامات.