إذا كان شعار ملتقى النهضة الشبابي الثاني «القوة الرافعة للأفكار»، فإن وعي الشباب السياسي والديني كان سر القوة الرافعة لذكر الملتقى، هذا ما صرح بنحو منه صقور الملتقى المشاركون كعزمي بشارة وسعد الدين العثماني وجاسم سلطان ومحمد الشنقيطي وغيرهم. الداعم المعنوي والمادي للملتقى، مؤسسة الإسلام اليوم، وعلى وجه الخصوص رئيسها الغائب في جنوب أفريقيا والحاضر عبر خدمة «سكاي بي» الدكتور سلمان العودة، وعلى رغم ذلك لم يكن له يد في وضع البرنامج أو اختيار الضيوف، راهناً الأمر إلى مدير الملتقى مصطفى الحسن ورفاقه (مشاري الغامدي ومسفر الغامدي وفهد الحازمي)، فيما لم ينس الحسن الإشارة أكثر من مرة إلى الزميل نواف القديمي، ودوره في الملتقى، إذ يبدو أنه مهندس الندوات رفيعة المستوى، كندوة الإسلام السياسي بين الإخفاق وإثبات الوجود وغيرها. حديث العودة إلى الشباب الخليجي والعربي كان محلقاً في عالم المشاعر، إذ تمنى أن يكون معهم ويشاهدهم ويثير الأفكار معهم. نبرة صوته وطريقة حديثه أعادت للذاكرة صوته في أشرطة الكاسيت أيام حرب الخليج، خصوصاً حين تحدث عن سجن نلسون مانديلا، وكيف حفر مع رفاقه السجن بيده، كدرس في الصبر والثبات على المبادئ. ثلاثة أيام في أحد فنادق الدوحة خصصت لمناقشة هموم النهضة، ومواضيع معرفية أخرى، عبر عدد من الجلسات والورش المختلفة، كان أكثرها سخونة وفاعلية محاضرة عزمي بشارة حول فاعلية المجتمعات المدنية في الدول العربية، وجلسة الإعلامي علي الظفيري عن «الإعلام والثروة». الوقت المتاح لكل ضيف كان يجزأ إلى نصفين، الأول للمحاضر والآخر للمشاركين يناقشون ويقترحون حيناً ويعترضون أحياناً بشكل متساو بين الإناث والذكور، وعلى رغم ذلك كانت هناك مطالبات عدة بزيادة ورش العمل، التي تتيح مساحة أكبر للشباب بالتحدث، إذ يبدو في جعبتهم الكثير. الندوات كانت عن «الإسلام السياسي بين الإخفاق وإثبات الوجود» أدارها الصحافي نواف القديمي، وشارك فيها كل من الدكتور محمد الشنقيطي، والأمين العام لحزب العدالة والتنمية المغربي سابقاً الدكتور سعد الدين عثماني، وأخرى عن «فاعلية المجتمعات المدنية في الدول العربية» مع المفكر العربي الدكتور عزمي بشارة، وجلسة أخرى عن «مفهوم القوة... عرض من خلال تجارب الأمم» مع وائل عادل، كما شارك المخرج السينمائي والفائز بعدد من الجوائز السينمائية عبدالله العياف بورقة بعنوان «السينما كأداة للتأثير»، والدكتور أنور دفع الله الخبير بالتبادل المعرفي ألقى ورقة بعنوان «قوة الإنترنت... إثراء المحتوى العربي». كما شارك الإعلامي المعروف علي الظفيري في جلسة «الإعلام والثورة»، وسلط الضوء أستاذ التفسير في جامعة الملك فهد مصطفى الحسن على «مركزية الإنسان». كما شارك خبير التنمية البشرية الدكتور ساجد العبدلي حول «البناء المعرفي»، واختتم المفكر المعروف وصاحب سلسلة أدوات النهضة الدكتور جاسم سلطان جلسات الملتقى بالحديث عن «تجسير الأفكار وتجسيدها». الفتيا والسياسة على صعيد الجلسات، كان الدكتور سعد الدين العثماني مهموماً بالتفريق بين ما هو ديني وما هو دنيوي، إذ استعرض خمسة عناوين رئيسية وموجزة، وهي التمييز بين الفتيا والسياسة، والتمييز بين أمة العقيدة وأمة السياسة، والتمييز بين أساس مشروعية السلطة وآليات ممارستها ومرجعية النظام القانوني، والتمييز بين الشريعة والقانون، والتمييز بين المبادئ السياسية في الإسلام وأشكال تطبيقاتها عبر القرون، وأخيراً التمييز بين العمل الدعوة والعمل السياسي. وأوضح العثماني أن التمييز بين الفتيا والسياسة يقوم من حيث المستند أولاً، فالفتيا تعتمد الأدلة الشرعية، بينما تصرّف السياسي يعتمد على المصلحة الراجحة، ومن حيث الاختصاص، فإن المفتي يجيب عما يصلح عذراً أمام الله في الآخرة، بينما السياسي يجيب عما يصلح واقع الناس في الدنيا. ومن حيث الآثار فالقرار السياسي ملزم، بينما الفتيا ليست كذلك. وفي حديثه عن التمييز بين أمة العقيدة وأمة السياسة، أوضح أن أمة العقيدة تجمع أفرادها على رابطة الأخوة العقدية، بينما أمة السياسة تتكون من أشخاص يجمعهم وطن سياسي واحد، ولو اختلفت العقائد، وبين أنه في التاريخ الإسلامي لم يكن هذا التمييز واضحاً، لأن الدولة الإسلامية كانت مبنية على تطابق بين الأمتين السياسية والدينية، لكن اليوم يتأكد أن المطابقة هذه لم تكن هي الأصل، فنحن نسير نحو عدم التطابق. وحول التمييز بين أساس مشروعية السلطة وآليات ممارساتها وبيان مرجعية النظام القانوني، أوضح أن هذا من أهم الأمور المسببة للخلل في العقلية الإسلامية. أما التمييز بين الشريعة والقانون، فأوضح أن الشريعة أحكام ملزمة دينياً، بينما القانون ملزم دنيوياً. وحصل هذا التفريق حتى في الآيات، إذ يوجد ما هو ديني من حيث الأصل، وما هو تدبير سياسي مرتبط بمجتمع النبي وبالدعوة وبمراحلها، والقرآن واكب هذه المراحل المختلفة. فيجب أن نقول إن الشريعة يجب أن تكون مرجع القوانين... إلخ. فيجب أن تكون الشريعة هي أساس القانون، ومن ثم تتحول إلى قانون مدني. وختم بالتأكيد على دور الدعاة والمسلمين، وهو أن يكون هناك انسجام بين الأحكام الأصلية دينياً والقانون المدني، وذلك بالإقناع والوسائل الديموقراطية. وفي حديثه عن التمييز بين المبادئ السياسية في الاسلام وأشكال تطبيقاتها عبر القرون قال: «إذا كانت تصرفات الرسول نفسها دنيوية اجتهادية، فمن باب أولى تجربة الخلفاء الراشدين وما بعدها»، موضحاً أن أشكال تطبيقاتها مرتبطة بسياقاتها وأعرافها واجتهادات المدارس، فيجب الاستفادة منها، لكن تبقى تاريخ فقه سياسي، وليست الفقه السياسي نفسه. وختم حديثه بالتأكيد على أن مجمل مفردات الفقه السياسي تعتبر من تاريخ الفقه السياسي. وبالتالي من أشكال التطبيق للمبادئ السياسية العامة للإسلام. الديني والدنيوي أما عن العمل الدعوي (الديني) والتمييز بينه وبين العمل السياسي (الدنيوي)، فأوضح أن المستقبل هو للدولة المدنية، وبالتالي يجب بناء حركات اسلامية سياسة مدنية أيضاً. فلا يمكن أن تتنافس في الدولة المدنية على الحكم إلا هيئات مدنية. وفي المقابل شدد على أن العمل الدعوي والعمل الديني يجب أن يكونا فوق التنافس السياسي، لأنه إذا دخل التنافس السياسي يصبح طرفاً من الأطراف ويصبح مشكلة. فالمفتي ينزل في الانتخابات وهو يفتي، والخطيب في الجمعة يدعو لحزب معين، وهذه حالة غير صحية أبداً. وأوضح أن العمل الدعوي لا يزاحم على المناصب والمواقع السياسية، بينما السياسي في عمقه هو عمل تنافسي للوصول إلى السلطة بمعناها الحديث في الدولة المدنية. ولدى استعراضه للفروق بين العمل الدعوي القائم على الهيئات، والعمل السياسي القائم على الأحزاب، أوضح أن الحزب يقنع ببرنامج لحل إشكالات المواطنين، بينما الهيئات الدينية عملها هو رفع مستوى الالتزام والوعي الديني. وكذلك الحزب يرتبط أكثر بما هو ممكن في خطابه. بينما في العمل الدعوي يتركّز الخطاب على التبشير بالإصلاح من حيث المبادئ العامة وفق مقتضيات الدين، وحتى لو لم يكونوا قادرين عليها. وشدد العثماني على وجوب إعادة تعريف أداة العمل السياسي بتحول الحركات الإسلامية إلى جماعات تشترك في المرجعية وتختلف في الوظائف. فمن أخطاء الحركات الإسلامية في نظره، أنها تسعى لأن تكون شمولية تقوم بكل شيء، إضافة إلى العمل السياسي، وهذا يؤدي بطبيعة الحال إلى ضعف تخصصها. فالتخصص هو الذي سيرفع من مستوى فاعلية هذه الحركات الإسلامية السياسية، كما أكد ضرورة تقوية البعدين الوطني والإنساني في خطاب الحركات الإسلامية. من جانبه، رأى أستاذ التفسير في جامعة الملك فهد للبترول والمعادن مصطفى الحسن في جلسته التي كانت بعنوان «مركزية الإنسان»، أن محاولة تجاوز الثقافة الغربية في الحديث عن مركزية الإنسان غير ممكنة، معللاً ذلك بأن بداية النزعة الإنسانية كانت من الثقافة الغربية في أوروبا في القرون الوسطى، إذ إن أهم بدايات هذه النزعة هي العودة إلى الكتب في العصر اليوناني وترجمتها ومناقشتها، ما أثمر إعادة الاعتبار إلى الإنسان بشكل كبير، حيث كانت الكنيسة تسيطر عليه. الفرق بين العبادة والحب وفصل الحديث حول معنى العلاقة بين الإنسان وبين الله عز وجل، مشيراً إلى أنها تتجلى عبر الأسماء والصفات، فالعلاقة هي علاقة العبودية. وتساءل الحسن لماذا ارتبطت العبودية بالإنسان، وارتبط التسبيح والسجود ببقية المخلوقات، ليجيب بأن بعض العلماء والفلاسفة يشيرون إلى أن العبادة يدخل فيها الحب والرضا الذي يأتي اختياراً، فالحب - من وجهة نظر الحسن - يقيد، وكلما اختلط الإنسان بالحياة كان أكثر تقييداً، بينما كلما اتجه للسماء ولله وجد ذاته وحريته. ورأى الحسن أن عدم الشعور بهذا المعنى قد يؤدي إلى تمرد الإنسان على الإله، مؤكداً أن الدين لا قيمة له إذا لم يصل إليه الإنسان بحرية. ولفت الحسن إلى أن الكلام عن ديموقراطية حقيقية ومثالية هو كلام مثالي وغير موجود، لأن الدنيا صراع دائم على الحقوق بين الحاكم والمحكوم، فالحاكم يسعى لزيادة صلاحياته باستمرار كطبيعة بشرية، والمحكوم لا تقف مطالباته عند حد. في غضون ذلك، تحدث الدكتور جاسم سلطان عن «تجسير الأفكار وتحويلها إلى مشاريع»، وفرق بين الثورة والنهضة وقال: «إن الثورة هي فترة افتكاك لمصير جديد وفرصة لميلاد مجتمع، أما النهضة فهي ما بعد الثورة»، مشيراً إلى ثلاثة إشكالات أمام النهضة، وهي أن عالم الفكر القديم لا يزال حاضراً، وعالم العلاقات لا يزال موجوداً، وعالم المشاريع لم يزل قائماً. وفي عالم الأفكار لدى العرب والمسلمين، رأى سلطان أنه ما زال الناس ينظرون للمنظر أو الفيلسوف بنظرة دونية، فهي تبحث عمن يعمل، وهذا ما يعتبره مؤشراً على أزمة في عالم الأفكار. كما أشار سلطان إلى أن فكرة التغيير تتكون من مراحل عدة، تبدأ من الفكرة الخام التي شبهها بالألماس التي لم تشذب بعد، لتنتقل إلى الفكرة الجاهزة للاستخدام، والتي تم الحفر (المعرفي) عليها، ثم تتحول إلى إجراءات، ثم تدخل في طور التجريب، لتكون منفذة عندما تنجح، أو معدلة إذا لم تنجح جزئياً فتعاد صياغتها، وبالمقابل قد تكون فكرة مهترئة لم تحقق شيئاً، لتصبح فكرة مدورة لإعادة طبخ هذه الفكرة المهترئة. ثم أشار سلطان إلى أن الفنان والأديب والمسرحي بإمكانهم أن يحولوا الفكرة المستعصية إلى فكرة بسيطة، أو يحولونها من لغة الكتب إلى لغة المقاهي لكي تؤتي أكلها، مؤكداً أن التحول في القيم والمفاهيم الجمعية يجب أن يسبق أي تحول في القيم والدساتير. وأكد السلطان أن النهضة ليست بديلاً ينفي البقية، بل هي تيار عام يستفيد منه الجميع بمختلف طوائفهم وأشكالهم وخلفياتهم. وافتتح وائل جلسته المعنونة ب«مفهوم القوة... عرض من خلال تجارب الأمم» بإيضاح تحيزه للثورة المصرية، كونه ممن شارك فيها بشكل فاعل على مستوى الأفكار والتحركات. ثم تحدث عن مفاهيم القوة السائدة، والتي تنقسم إلى الذاتية وغير الذاتية. فالقوة الذاتية هي التي يمنحها الحاكم للمجتمع وتتم حيازتها بالعنف، كما أن القوة غير الذاتية هي التي يمنحها المجتمع للحاكم، وتتم حيازتها باللا عنف. وبين أن ما حدث في مصر ليس ثورة على النظام فقط، بل هي ثورة في نمط العلاقة بين الحاكم والمحكوم. من جانبه، لخص المخرج السينمائي عبدالله العياف حديثه في جلسة «السينما كأداة تأثير» حول تأثير السينما في ثلاثة أمور: قوة الوسيط وسهولة فهمه، قوة تأثير المونتاج، وأخيراً تميز تجربة المشاهدة السينمائية. ثم انتقل بعدها للحديث عن أوجه تأثير السينما، والتي تشمل الوعي واللا وعي، مروراً بالمعارف والثقافات، ثم توثيق التاريخ، والمشاعر والأحاسيس، ثم القبول والرفض الاجتماعي، وانتهاءً بالصور النمطية للأشخاص والأشياء والشعوب، وبالسياسة والدعاية المضادة. ولفت الدكتور أنور دفع الله في جلسته عن قوة الإنترنت، وأثر المحتوى العربي، إلى أن قوة الإنترنت في الإعلام، والتجارة والاتصالات، لا توجد لها قوة مفروضة أو ممول أو أية جهة تدير الإنترنت. كما عزّزت الانترنت - بحسب رأي دفع الله - قدرة الأفراد عن طريق الشبكات الاجتماعية والتي تتمتع بعدم المركزية المطلقة. وفي جلسة «البناء المعرفي»، أكد الدكتور ساجد العبدلي أن المعرفة وسيلة وغاية، وأن قيمتها بالتطبيق والتفعيل والتثمير، مشيراً إلى أن إدراك أهمية المعرفة للأفراد والمجتمعات يحدد الكم والكيف.