نفيت أن كتابك سيرة ذاتية، أو توثيق لحقبة زمنية في مدارس التعليم العام، ولكنه في الحقيقة بين هذا وذاك، هل تجدين أن كتابة السيرة الذاتية أمر صعب؟ - لربما السيرة الذاتية هي دائرة تغلق على تمام اكتمالها، بينما كتابي «ماضي مفرد مذكر» هو تتبع لتضاريس مكان كانت تتسم علاقتي به بالغربة والغرابة التي تجعل من الصعب أن أتجاهل جميع التجارب والخبرات التي مرت بي هناك، أو أن أتجاوز واقعاً كانت ومازالت تغيب عنه الكثير من شروط المؤسسة التعليمية التربوية في شكلها الحديث، وكتابي ليس تاريخياً بقدر ما هو محاولة راصدة لتتبع خطوات أجيال قطعت تلك المسافة بين الدخول والخروج داخل بوابات كانت ومازالت مغلقة على (وهمِ) تمامها وكمالها، وأيضاً هو ليس بتوثيقي لأنني لن أدرج هنا بعض تفاصيل معركة تعليم البنات، وأنقل مشهد تقاطر الوفود التي كانت تطالب بتعليم البنات، وأخرى تنكر تعليم البنات، أو المباني المدرسية التي هددت بالحرق أو المساجلات التي كانت تدور فوق صفحات الجرائد حول تعليم البنات. ما رصدته هو لمرحلة لاحقة، بعد أن انقشع النقع، واستقر كدر الكر والفر على المضمار، وبعد أن بات التعليم حقيقة واقعة، وأصبح هناك مبانٍ وفصول والجميلة النائمة في سبات الدهور، استيقظت وصار لها حقيبة بها دفاتر وأقلام تشحذها بمبراة، وتعلق في خزانة ملابسها رداءً من نوع جديد، وله مهمة خاصة اسمه (مريول )، وأعشبت شوارع المدن الكبرى في المملكة، عندما مرت بها السيارات تحمل فتيات يفككن شفرة كتاب التاريخ ويعبثن بانتظام وهيبة أسطره. هذه الحرب لم تنته برايات مرتفعة وانتصار كما تبدو في واجهتها الرسمية، بل مرر خلسة بين الفريقين اتفاقاً غير مدون وسري، دخل من ضمن المقايضات، وهو شرط انتشال تعليم البنات من حصار السد الاجتماعي، ولكن عبر أذرع المؤسسة الدينية، لتقوم بتضميده وعلاجه من وعثاء المعركة وفق ترياقها ووصفتها الخاصة. فكرة نشر الكتاب بعد التقاعد، هل لا زالت تلاحقك فكرة المساءلة لو نشرت الكتاب وأنتِ على رأس العمل؟ - قد يكون الكتاب شهادة فك ارتباط، إخلاصاً لجميع القيم الإنسانية الغائبة عن تلك المؤسسة، أو لربما البراء مما يعبدون، لم أستطع أن أغادر ذلك المكان من دون أن أعلن موقفي، فالصمت وقلب الصفحة، هو اشتراك في التآمر، ورضاً وتواطؤ وتخاذل، لكن مازلت أخشى أن كمية السخط والتذمر التي تنتظم في صفحات الكتاب تستفز القارئ، فقد علمتني الكتابة الصحفية في الشأن العام بأن نبرة السخط العالية مستفزة للمجموع، والمؤسسة التعليمية أصبحت جزءاً من معالم المكان وتاريخه وتخالط هويته، فقد تصبح صفحاتي استفزازاً للأنا الجمعية. لذا لن أدعي بأنني أكتب بلسان حال المجموع، فقط سأفتح حقائب تجربتي أنا، واستدني أرشيف السنوات التي تتوالى وتصطف وتومض كأشباح ماكرة على شاشة الذاكرة، وتكمن متجهمة ساخطة في زوايا الروح. ما مدى تأثير عالم ما خلف أسوار المدرسة على تكوين الوعي والثقافة لديك؟ - المفارقة هنا أنني لم أعد أدري أين حدود الذات (الأنا) المستقلة التي تشهد من بعد وتراقب وترصد لتكتب، ولم أعد أستطيع فرز الجزيئات التي تخللت وجداني وخلاياي من طقوس وتعاليم ونكهة تلك المؤسسة، حتى باتت جزءاً من طفولتي وصباي، وتداخلت مع جميع مراحل نضجي، عملت فيها عشرين عاماً، شيء في داخلي يسخر مني، بل يقهقه، ويقول: هل أنت واثقة من أنك لست سوى إحدى المنسوبات المغطسات بذلك الماء الذي يشبه (ماء العماد الأول) الذي عنه انبثقت المخلوقات بكل فطريته وبدائيته وغموضه، وفقدت عين الخارجي المستقلة الرافضة. يقول الروائي انطونيو غالا: (إننا مجبولون مما ننساه ظاهرياً). أنا لست واثقة من الحدود التي تفصلني، فقد أكون لست سوى إحدى الأصوات التي اندمجت مع المجموع لتتحول مع الوقت إلى كورس نسائي كبير في جميع مدن المملكة، يردد تعاليماً وشعارات لها نفس النكهة، ويتداول نفس الذوق و(الستايل)، منسوبات تلك المؤسسة عائلة نسوية هائلة لها نفس الملامح. عنوان الكتاب ذكوري، وما بداخله يُعنى بالمرأة فقط، لماذا ألغيت المرأة من العنوان ؟ - عنوان الكتاب هو المفارقة التي ستدخلنا إلى الكتاب، حيث الحيز النسائي تماماً يدار بفلسفة ذكورية خالصة، القواعد الفكرية التي تقوم عليها فلسفة الميزان الصرفي اللغوي تعكس الكثير من ملامح ثقافتنا، ففي اللغة العربية عندما نريد أن نزن كلمة نرجعها إلى صيغة (فَعَلَ) وهو الفعل (التوحيدي) لذات المذكر المفرد الماضي، وهو السبيل الوحيد لنعرف أصلها، فالمنبع (الأس) هو المفرد المذكر الماضي، وما عدا ذلك في الكلمة فهو مزيد وهامشي وفرعي، إنها الفلسفة التي غزل خيوطها نسيج ثقافتنا، بل هي تختصر هنا منطلقات الأحكام التي تود الوصول إلى الكمال والتمام عبر جذر الأشياء ولبها، فالجذر هنا لابد أن يكون ذكراً واحداً مفرداً يستمد مصداقيته وشرعيته من ماضيه. وهذا بالتأكيد انعكاس الفكر الفقهي على جميع الأنشطة العقلية في ثقافتنا الإسلامية، فالأحكام الفقهية في أغلبها تشترط للتكليف والولاية والوصاية وما هنالك من مهام جوهرية في الولاية و الشأن العام ( الذكورة والعقل والبلوغ والحرية)، هؤلاء هم الجذور والأصول في الثقافة، وماعدا ذلك فهم أطراف وأفعال مزيدة ومخلوقات طارئة، سواءً من طبقة الإناث أو الصغار أو العبيد، يقبع هؤلاء على الضفاف، ولا يؤخذ بهم أو يعتد بحيزهم، نتيجة لمعاناتهم من قصور خلقي جيني متأصل يزحزحهم عن الانخراط في الفاعلية أو الجدوى الاجتماعية، كتب الأمام أبو حامد الغزالي في كتابه «المستصفى في أصول الفقه» في مبحث خاص للمرأة لا يتجاوز الستة أسطر عنوانه: «دخول النساء تحت حكم المضاف إلى الناس». إذا المرأة ليست أصلاً بل فرعاً من فرع مضاف ومقتحم. لذا حينما نريد أن نصل إلى حقيقة الكلمة ونزنها صرفياً، لابد أن نعيدها لهذه الصيغة الماضوية المفردة المذكرة (فَعَلَ). الحمولة الفلسفية التي تتوارى بين تلافيف الميزان تختصر هنا جميع الفكر الذي يقوم عليه العمل في (الرئاسة العامة لتعليم البنات سابقاً ووزارة التربية والتعليم حالياً)، من دون الاعتداد بتاء التأنيث في آخرها. أقرب مثال على هذا ما حدث أخيراً من (تذكير) جميع إدارات التربية والتعليم بشكل عاصف، لتبقى المرأة مهمشة جانبية أو نائبة فرعية داخل مؤسسة من المفترض أنها خاصة بالتربية والتعليم اللذان هما شأن نسوي منذ الأزل. ما الختم الذي تركته المدرسة على روحك كمبدعة؟ - الكتابة بالنسبة لي فعل مهيب مقدس، كأنني بحضرة ملَك أو ملِك، وحينما كنت أدون هذا الكتاب متتبعة أنين تروس الآلة الداخلية، بدا هذا الأمر مزعجاً وموتراً بالنسبة لي، لذا كنت أدفع الأحداث بثقل وصعوبة لعلي أصل بها إلى منطقة جمالية، أو هدنة نتنفس فيها الصعداء أنا والقراء، ولكن جميع أدراج الذاكرة التي أفتحها واحداً تلو الآخر تتقافز في وجهي الوطاويط والسحالي، أدراج لها عروق تنبض بالمؤلم، كل ما سحبت درج استعدت رائحةً أو لوناً أو ذكرى مغطسة بالسخط أو الإحساس بالغبن، هل هذا الكتاب هو الترياق الذي أصب بين سطوره كل هذا الجيشان لأتخلص من تفاصيل التجربة؟ لم تكن كتابتي لصفحاته تجربة مبهجة أو سارة كباقي كتبي، إذ أخوض الكتابة وبيدي الصولجان والمعول الذي يفتح صناديق البهجة، الاشتباك مع العالم المجهول، وإضفاء قلائد الوصف ورصف سلاسل الحوار، ونقش أقمار المساء فوق الكثبان، حيث الغدران الممردة، والجنيات المعبئات بقوارير الكلام، لاشيء من هذا! فلم أكن أقبل على الكتابة بلهفة، كنت أسحب نفسي، وكأنني جريح يعاود الطبيب لأن موعد تغيير الضماد قد حان، تجربة مؤلمة على رغم أنها لازمة وتطهيرية، لكن لا أحد يحب غرفة الضماد. تجربة السعوديات الدراسية ألا تستحق أن تكون مسلسلاً تلفزيونياً طويل المدى كالمسلسلات التركية؟ - ما خلف الجدران يحتشد بالكثير من التجارب الإنسانية، والمفارقات، والجدران التي تنبت فوقها أعين متربصة ترصد أخرى منكسرة، والسبورة والطباشير المعوقة لتبرعم الأجنحة، والدفاتر الخالية من التحفيز تمرر عليها المعلمات توقيعهن (نظر) بملل، والجواب الوحيد لكل سؤال مع غياب ثقافة السؤال، بداخل تلك الجدران، كل شيء عدا لذة المعرفة ومتعة ودهشة الاكتشاف. تجربتك المختلفة مع وزارة الثقافة والإعلام عندما رأست لجنتها النسائية كتنظيمكم (المخيم الإبداعي للبنات)، لماذا لا يمكن نسخ التجربة لمدارس التعليم العام؟ - طوال السنوات العشر التي أمضيتها في جهاز الوزارة، وجدت أن قطاعات وزارة التربية والتعليم تعمل كالجزر المعزولة المنقطعة عن بعضها البعض، غياب روح الفريق والشروخ البيروقراطية التي تفتت هيكلها، وتقلص روح المبادرة والإبداع، ويصبح المشروع عندما يحاول أن يشق طريقه للنور، مهدداً للبعض من صاحبات الفكر الحريمي، وثقافة الحرملك، من خلال إصرارهن على الرجوع لرئيسي الذكر، عندها يغدو المشروع مرمىً لسهام التثبيط والمنع والاسترابة والتنميط، هناك لديهم البعض لا يعمل ويزعجه كثيراً أن يحاول الآخرون العمل، لذا تلك البيئة المنفرة كنت أتبادل وإياها الصد والهجران، على العكس من عملي في وكالة وزارة الإعلام للشؤون الثقافية، فهناك العمل ضمن الفريق المثقف الراقي والإداري المتوقد د.عبد العزيز السبيل، يختلف الأمر تماماً، استطعنا كلجنة نسائية أن نخرج العديد من المشاريع الثقافية الناجحة التي أستطيع أن أقول أنها أحدثت فرقاً في النشاط الثقافي على المستوى المحلي. ألا ترين تناقضات الحياة المركبة التي عاشها المجتمع في تلك الفترة، قد أسهمت في إبراز مجموعة كبيرة من السعوديات المثقفات؟ - حتماً، ولذا قريباً سنصبح بلد المليون راوي وراوية، كثافة اللجوء للرواية كمنبر للتنفيس، لا سيما بين النساء، هو بالتأكيد مؤشر على الحاجة إلى قنوات تعبيرية تعكس القلق وانحسار الإحساس بالقيمة أو الجدوى، مع ضيق المساحة التي يتحركن بها، والوصاية المركبة التي يمارسها المجتمع ضدهن، فلقد سرّب لهن بروميثوس (سر النار) أو سر الأبجدية، ولكن أبقى جميع أبواب القلعة مقفلة من دون أجنحتهن. أن نعيش داخل المدرسة بشخصيات لا تمثلنا، ونتحايل من حين لآخر على المستحيل لنجعله ممكنًا ولا زلنا رغم مزاعم الانفراج .. ما مدى تأثير ذلك على حياة المرأة بشكل عام؟ - عندها إما الإصابة بحالة انسحابية شديدة مع الصمت الرافض، أو الهروب بعيداً عن هذه المؤسسة. هل ستأتي بعد عشرين عاماً أخرى من تكتب عن المدرسة، وما تحوي، كما فعلتِ؟ - بالتأكيد وستكون كتابة أشد قسوة، وذات مطالبة بأسقف أكثر ارتفاعاً، لأن الأجيال القادمة هي (ابنة المعرفة) وثورة الاتصالات، وحقيبة المعارف المدرسية التقليدية لم تعد تروق لأحد، لذا كان إهدائي للكتاب (إلى اللواتي هناك، الجدار ليس هو كامل المشهد! ثمة عالم خارجي بل عوالم أخرى إنسانية وخلاقة تكمن لتجابه السلطات المدمرة اللاإنسانية التي يصنعها البشر، ما من طريقة سوى أن نشرئب لنصنع كوة ضوء، بعدما تحولت المؤسسات التعليمية إلى جثث توقفت عن النمو، الإبداع، والتحليق الخلاق.) نتخرج من مدرسة تحمل رقماً، وننتقل إلى رقم آخر.. ورقم آخر لمرحلة أخرى، لنعمل في مدرسة برقم، هل تتوقعين أن التكوين التنظيمي للمدرسة شبيه بتكوين السجون؟ - وهذه الإشكالية العميقة التي تتعلق بقصور في هوية المرأة في وزارة التربية والتعليم، اعتقد بأنها تعود في مجملها إلى غياب الوجه، فالوجه هو هوية، وعندما يغيب الوجه تنتفي الهوية، تصبح كياناً مبهماً غامضاً ومنتقصاً غير قادر على تحقيق وجوده أو جعل المحيط يعترف به إلا عبر معرف أو ولي أمر. و لربما هذا السبب الذي جعل مدارس البنات جميعها بدون أسماء، فالاسم أيضاً هوية وقيمة إنسانية، بينما مدارس البنات تسمى بالأرقام، فالثانوية الأولى، الثانوية الرابعة عشرة، وهكذا في المجالس الرجالية عادة لا تذكر المرأة باسمها، فهي تكنى ويشار لها مؤاربة (أم فلان – أم العيال – الأهل – البنت- الحرمة)، وهذا بالتأكيد إرث ثقافي انسحب على مدارس البنات، فالمدرسة قائمة بالترميز والإيحاء، مبنى لابد أن يظل مغطساً بالغموض، قصياً عن جميع مظاهر الحياة من حوله، عدا الساعات الست عندما يشغل بالبنات والمعلمات، ومن ثم يغلق الباب. الرقم هو انتقاص من الكرامة، لأنه يجرد الإنسان من هويته الإنسانية، ويحوله إلى رقم، تماماً كالسجين، وكذلك هي مدارس البنات. هل الكتاب بداية لإصدارات مختلفة من أميمة الخميس، وهل لا زال لديك متسع من الوقت لتمنحي الأطفال مساحة جديدة ؟ - الكتاب هو للتخلص من مأزق خاص بي، لكشط مرحلة من ذاكرتي، لإعلان موقف إدانة، بينما يظل مشروعي الإبداعي مستقلاً وبعيداً ومحلقاً في ملكوته الخاص، وبالنسبة لقصص الأطفال، فلدي مجموعة تحت الطبع.