قبل أيام قليلة، استعادت الذاكرة الجماعيّة للفرنسيّين آلام المقتلة الدمويّة التي نفّذها الإرهاب الإسلاموي في قلب شوارع باريس، وهي من محطّات كثيرة ساهمت في تغيير نظرة الغرب إلى ظاهرة الإسلامويّة المعاصرة، خصوصاً «الإخوان المسلمين». والأرجح أنّ الوزن الراجح في قضية التحرش الجنسي التي فجّرتها هند العياري ضد الأستاذ الجامعي طارق رمضان، حفيد مؤسّس «الإخوان»، تتصل بخلفية ثقافية واجتماعية تتعلّق بالمرأة الغربيّة وحقوقها وصراعها المديد مع الذكوريّة، واستطراداً الطُرُق المتشابكة التي تتفاعل بها المرأة العربيّة- المسلمة التي تعيش في الغرب. يجدر وضع ذلك في المقدمة، كي لا تضيع قراءة تلك القضية في متاهة الإسقاطات السياسيّة والأيديولوجيّة، خصوصاً عند النظر إليها خارج ذلك السياق الأساسي، لتلمس ظلال أخرى حاضرة فيها. ثمة استدراك آخر واجب هو أنّ الأمر لا يتعلّق بكون رمضان حفيداً لحسن البنا وأنّ أباه كان سكرتير ذلك المؤسّس، فتلك مسألة قوامها البيولوجيا والتكاثر، ولا محل لها من الإعراب في نقاش مسائل السياسة والثقافة والاجتماع. وبعيداً من تلك الخيوط البيولوجيّة، يعرف الأكاديمي السويسري المصري الأصل بأنه من الرموز البارزة ل «الإخوان» في أوروبا والغرب، خصوصاً أنه مختص في الفكر الإسلامي، بل هو أستاذ الدراسات الإسلاميّة المعاصرة في جامعة أوكسفورد. وغالباً ما حظي رمضان باهتمام أوروبي واسع، يرجع جزء كبير إلى كونه من العقول المفكرة الأساسيّة ل «الإخوان» في أوروبا. ولمدة تزيد على نصف قرن، درجت المؤسّسات السياسيّة الغربيّة (في شكل متفاوت ومتقلّب) على التعامل مع «الإخوان» وتفرعاتهم الغربيّة، بصفتهم ممثلين شبه حصريّين للمجتمعات الإسلامية في الغرب. هناك جزء من ذلك التعامل يتعلق ب «الإخوان» في العالمين العربي والإسلامي، لكن ذلك يخرج عن نطاق التقصي السياسي للمقال. «الإخوان الجدد» في الغرب! شكّل التغيّر المستجد في علاقة الغرب ب «الإخوان» موضوعاً لدراسات نهض بها مفكرون غربيّون منهم الباحث فرايزر إيغرتون المختص في السياسة الدوليّة في «جامعة دالهوزي» الكنديّة، الذي وضع كتاب «الجهاد في الغرب: صعود السلفيّة المقاتلة» (وضع في 2011 وظهر بالعربيّة في 2017)، وكذلك لورنزو فيدينو، وهو خبير إيطالي- أميركي في السياسة الخارجية، وتتمحوّر كتابته حول الإسلاموية والعنف السياسي في أوروبا وأميركا الشمالية. ووضع مجموعة من الكتب عن ذلك الموضوع من بينها «القاعدة في أوروبا» (2006) و «الإخوان المسلمون الجدد في الغرب» (2010). وتؤشّر تلك الكتابات والدراسات على بروز مستجد ما بين الغرب و «الإخوان»، بل أنه يترك آثاره على مجمل العلاقة المتشابكة بينهما. وفي خلاصة لا تخلو من الابتسار، يمكن القول أن «الإخوان» نجحوا في إرساء وجود قوي لهم في المجتمعات المسلمة في الغرب، عبر تنظيمات وجمعيات بعضها واضح في إخوانيته، والآخر يرتبط (أو يتأثّر) بصور متنوّعة مع التنظيم الأصل الذي ظهر في مصر 1928، ثم حاز امتداداً عالميّاً. وبفعل خبرة وتمرّس سياسي، استطاعت «شبكة الإخوان الغربيّة» (إذا أمكن الوصف) نسج علاقات مميزة مع النخب في الغرب. وفي محطات كثيرة، وصل الأمر بمؤسّسات سياسيّة غربيّة أن توكل إلى تلك «الشبكة الإخوانية» إدارة شؤون حياتيّة للمجتمعات المسلمة الغربيّة تشمل التعليم الديني في المدارس الحكومية وإرسال أئمة إلى الجيش والسجون وغيرها. وأحياناً، نُظِرَ إلى قادة «الإخوان» الغربيّين بصفتهم نواقل تستطيع تحقيق أهداف معينة في السياسة الخارجيّة، أو الحصول على مكتسبات انتخابيّة محليّة. في محطات معينة، بدت تلك العلاقة غير مقلقة (بل ربما ملائمة) لأجهزة استخباراتيّة غربيّة، على غرار ما كانه الحال إبّان الحرب ضد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان في ثمانينات القرن العشرين، والحرب في يوغسلافيا السابقة وغيرها. ومع تركيزها على الأدوار الاجتماعيّة والثقافيّة، نجت معظم «شبكة الإخوان الغربية» من الصدام مع الاستخبارات الغربيّة، في معظم الوقت. وما لبثت الصورة أن صارت أكثر تعقيداً مع توسع ظواهر العنف الإسلاموي، خصوصاً بعد ضربات الإرهاب في 11/9 في عام 2001. وعلى رغم ذلك، ظلت «شبكة الإخوان الغربيّة» نائية بنفسها عن كونها مصدراً للقلق في المؤسّسات السياسيّة الغربيّة، إلى حدّ بعيد. سيّد قطب و «التجربة النمسويّة» بديهي القول أن تتالي ضربات الإرهاب الإسلاموي في الغرب، راكمت ظلالاً قاتمة على ميل الإسلامويّة المعاصرة إلى التطرّف في فكر تكفيري، يركّز على تكفير المجتمعات وأفرادها، بداية من المجتمعات الإسلامية والعربيّة، ووصولاً إلى المجتمعات الغربيّة. في المقابل، ثمة مراوغة مذهلة في ذلك الخطاب، لا تظهر إلا لمن يقترب منه جيّداً. هناك مثل مكثّف يصلح للدلالة على ذلك. إذ يشمل الخطاب «الإخواني» حديثاً كثيراً عن السلام، وهو مما ينظر إليه غربيّون كثر باعتباره اعتدالاً. ماذا لو قرأنا عن ذلك «السلام» في كتاب سيّد قطب «في معالم على الطريق»، مع ملاحظة أنّ الإسلامويّة باتت مشرّبة بأفكار جذريّة لدى قطب وأبو الأعلى المودودي وغيرهما. يصف قطب مفهومه عن السلام مشيراً إلى أنّ الإسلام «ينتزع الحريّة الشاملة لكل شخص ومجتمع من عبوديّة الأفراد الآخرين والمجتمعات الأخرى، وينهي عجرفة الإنسان وأنانيّته؛ ويقيم حكم الله وألوهيّته في العالم وحكم الشريعة الإلهيّة في شؤون الإنسان... عندما يدعو الإسلام إلى السلام، لا يكون هدفه مجرد سلام سطحي ينشد ضمان الأمن في رقعة الأرض التي يقطنها أتباع الإسلام. يعني السلام في الإسلام أن يكون الدين [بمعنى نظام المجتمع] كلّه صافيّاً لله، وأنّ يطيع الناس الله وحده، وإزالة كل نظام يسمح لبعض الناس أن يحكموا على الآخرين». كيف تكون الحال عندما تسير تلك الكلمات في تنظيم إسلامي يعيش في مجتمع غربي؟ أليست قادرة على أن تكون «حاضنة فكريّة» لتصرف متطرّف ضد تلك المجتمعات التي تحكمها شرائع وضعها البشر من دون ادعاء أنها تستند إلى إرادة إلهيّة فيها؟ وبتذكر نتائج الانتخابات الأخيرة في النمسا، يرد إلى الذهن أنها كانت من البلدان التي دقّقت أخيراً في مخاوف متنامية من التنظيمات المتأثّرة ب «الإخوان» فيها، وهي مستقرة فيها منذ قرابة نصف قرن. ولعل بدايتها ترجع إلى لحظة استقر فيها الناشط الإخواني البارز يوسف ندا في بلدة «غراز» السويدية. وتدريجيّاً، تجمع فيها عدد من الأعضاء النافذين في الفروع المصرية والسورية والفلسطينية، بل نشطوا من دون إزعاج أساسي. وفي مثل بارز، عمل المصري أيمن علي سنوات طويلة إماماً رئيسيّاً في «غراز»، ثم عاد إلى مصر عقب فوز «الإخوان المسلمين» في الانتخابات فيها، كي يعمل مستشاراً لدى الرئيس محمد مرسي. وفي مثل يدل على تغيير النظرة الغربيّة إلى «الإخوان»، أصدرت الخارجية النمسوية في خريف 2017، دراسة عن «الإخوان» في النمسا، رصدت فيها الخيوط الخفية التي تصل تنظيمات إسلاميّة مع التنظيم الأم، مع التشديد على أن تلك الخيوط ظلت موضع إنكار مراوغ من قبل التنظيمات الإسلاميّة في النمسا. وجاءت الدراسة قبيل الفوز الكبير لليمين الشعبوي في النمسا، ما يجعلها تصلح مؤشّراً بسيطاً على التفاعلات المتشابكة التي تحصل في العلاقة بين الغرب وظاهرة الإسلامويّة المعاصرة (خصوصاً «الإخوان») التي تبدو مستسلمة لصعود الأفكار والممارسات الأشد تطرفاً وإرهاباً فيها.