مَن يستطيع مقاومة «التصابي» في المجتمعات المعاصرة؟ كيف النجاة من السيول المتدفقة لصورة الجسد المقاوم للزمن (وفكرته وخياله المُغوي)، على شاشات السينما والتلفزيون والكومبيوتر، إضافة الى تدفقها على الكتب وفي المجلات والجرائد والإعلانات؟ بمعنى ما، صار الجسد الذي لا يكاد يغادر شبابه ثمرة دانية القطوف، فمن يستطيع مقاومة هذه الثمرة المُغرية؟ ثمة تناقضات شتى في هذا الأمر. يشبه الشيخ المُلصق إلى وجه مشدود بشباب البوتكس، وعضلات من الهرمونات والرياضة، كأنه «كولاج» سريالي لجسد الإنسان في المجتمعات الحديثة. يعيد ذلك الى الصورة الإسطورية لكائن ال «سانتور» في مثيولوجيا الإغريق: نصف إنسان مُركّب فوق نصف حصان. وفي وقت يبدو فيه جسد إنسان القرن ال 21 أيضاً وكأنه يتمرّد على الطب الأكاديمي المستند إلى العِلم الغربي ليلجأ إلى توليفة مريبة من الأعشاب المزعومة القوى والمقولات الملتبسة للطب البديل؛ يحدث استسلام شبه غيبي للجسد عينه أمام حقن البوتوكس والجراحة التجميلية وهرمونات الشباب. ويصل هذا الإستسلام المريب أيضاً إلى ذروته، عندما يتصل الأمر بالجينات التي تنيط بها مخيلات بشر القرن ال 21، قوى أسطورية تجعلها أقرب إلى عصا سحرية تستطيع أن تضرب الجسد لتنقله إلى أشد حدود الخيال شططاً. ويلاقي هذا الخليط المُشوّش تأييداً لمزاعمه المتناقضة في سلسلة أجساد «متحوّلة» وفائقة الشهرة. ربما كانت أول قطرة في هذا السيل الرئيس الأميركي بيل كلينتون في علاقة ملتهبة مع المراهقة مونيكا لوينسكي. وعلى غراره، ظهر الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي شاباً يليق بالشابة الفتية كارلا بروني. ويتفجّر التصابي على جسد سيلفيو برلوسكوني فضائح قد لا تنتهي عند «روبي غيت». ولا تتوقف ممثلات هوليوود عن الظهور في إعلانات عن مستحضرات تجعل الوجه يعود الى شباب ما كانه قبل عشرين عاماً، لعل أشهرهن آندي ماكدويل. جسد بزمن مفكك من المستطاع القول ان جسد الحداثة، الذي استهلّ مع التشريح الحديث، يشهد إنقلاباً مذهلاً في آونة توصف بأنها زمن ما بعد الحداثة. أسقط الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت القدسية الدينية للجسد، بحيث صار آلة يمتلكها الإنسان، وليس محلاً لكينونة تكثّف الكون ومقدساته. كان ذلك جسد الحداثة، الذي لم تخطر له فكرة أن تقلب التكنولوجيا مسار الزمن في أنسجته وأعضائه. وترافق الجسد الديكارتي، مع تفكير عقلاني وعملاني، إضافة الى إرتكازه على الإنسجام الداخلي لجسد الانسان وسير الزمن فيه. ولم يصمد هذا الجسد الحداثي أمام تقدّم علمي سمح بتحوّل شهوة التصابي العميقة الجذور، إلى سلع متوافرة في صيدليات ما بعد الحداثة ومولاتها أيضاً! تفكك الجسد الديكارتي أمام حبة الفياغرا، التي ترجع بالجسد الهرِم إلى شباب الشهوة والقدرة الجنسية. ومع إضطراب الزمن الداخلي لجسد البشر، تفكّكت هويته أيضاً. لا نحتاج حتى إلى سيغموند فرويد للقول ان للتصابي عمقاً جنسياً تصعب الممارأة فيه. قبل فرويد، كتب أحمد بن سلمان «رجوع الشيخ إلى صباه في القوة على الباه»، كما وضع الشيخ النفزاوي كتاب «الروض العاطر في نزهة الخاطر». وقبل فرويد، تحدّثت أساطير الإغريق والفراعنة والأشوريين عن إناث لا ينضب نبع أنوثتهن ودفئهن. يرسم الجنس كثيراً من ملامح هوية الجسد في خيال الإنسان. يعتبر الذكر نفسه شاباً طالما واتته القدرة على الوصال، ولا يختلف الأمر كثيراً للمرأة أيضاً. ليس عبثاً أن حبة الفياغرا رافقها حديث متواصل عن «فياغرا للمرأة» أيضاً. من المستطاع الاقتباس من المفكر الألماني مارتن هيدغر، الذي لاحظ أن الإنسان المُعاصر ينظر الى نفسه باعتباره الكائن الذي يتفاعل مع التقنية في علاقته مع الكون، وكذلك ينظر إلى نفسه كمخزن لإمكانات افتراضية متنوعة يعمل عليها العلم، كما يكون النهر مخزناً لطاقة الكهرباء. ألا يمكن الإستطراد في هذا التشبيه قليلاً للقول ان كائن القرن ال 21 ينظر إلى جسده كمخزن ل «أجساد» شابة، يستطيع العلم أن يستخرجها منه، بقوة الطب والأدوية والرياضة ونمط الحياة والغذاء الصحي والجينات وغيرها؟ في المقابل، ألا تلوح خلف التلاعب الجيني، الذي يملأ صوته الجهير الإعلام يومياً، فكرة احتواء الجسد على إمكانات ووظائف لا حصر لها ممكنة ومفترضة علمياً، وضمنها وظيفة الشباب فيه؟ في هذا المعنى، يبدو الطب والإعلام والفن في زمن ما بعد الحداثة، وكأنها تعطي للمتصابي القدرة عن أن «ينقش» الشباب واقعياً على الخيال المعاصر لجسد القرن ال 21. ويؤدي هذا النقش إلى تفكك علاقة التكامل الطبيعي بين الجسد وزمنه. واستطراداً، من المستطاع تذكّر أن مارتن هيدغر رأى في وقت مبكر نسبياً، أن استسلام الإنسان أمام التقنية، وانكشاف تركيبته وزمنه أمامها، يشكّل مساراً خطيراً يسير بالكائن البشري نحو الهاوية. فمثلاً، قيل عن تفكيك شِفرة الجينوم انها وضعت الإنسان أمام الإنكشاف الاقصى لهوية جسد، كما كشف مُركّب «دي أتش إي إيه» DHEA (يوصف بأنه هرمون الشباب) زمن البشر أمام الطب المعاصر. عندما لا يكون الكائن البشري سوى مخزن من الإمكانات الإفتراضية، تظهر هاوية من أنه لن يعامل ذاته إلا بوصفها ذلك المخزن. ولكن، لم يكن هيدغر يائساً. ورأى أن ثمة مجالاً للقول ان الإنقاذ يأتي من التخلّص من الرؤى المحدودة، مثل التركيز على سوء استعمال التقنية ونقد الطب بالقول انه يُهدّد دوماً باستيلاد فرانكنشتاين مجدداً. ودعا إلى التفكير في ماهية التقنية نفسها، كمقدّمة للسيطرة عليها فكرياً، واجتراح مسار لخلاص الإنسان إنطلاقاً من تلك السيطرة.