في سنة 614، سقطت مدينة القدس بيد ساسانيي فارس، المنافسة التاريخية والتقليدية لبيزنطة المشرق: حدثٌ لم يُصوِّر فحسب فسيفساء الصراع الديني المشرقي الذي تُوّج باحتلال فارس الصليبَ المقدس والمضي به إلى بلادهم (لكن الصليب سيعود بعد 15 سنة على يد هرقل سنة 629)، ولا حتى المجازر الفارسية الشنيعة بحق القدس والمقدسيين، بل توجب عليه وضع لبنات سياسية لحدود جديدة في خريطة العصر القديم المتأخر. دخول المسلمين إلى القدس من غير قتال بقيادة عمر بن الخطاب وتوقيعهم اتفاقاً اشتهر ب «العهدة العمرية» مع البطريرك صفرونيوس Sophronius (الدمشقي الأصل)، لم يكونا بالفعل سوى قمة هرم تاريخي من الصعب فهمه من غير زرعه في البوتقة التاريخية الكبرى في مشرق العصر القديم المتأخر: إنها البوتقة التاريخية التي يدعونا بويرسوك إلى أنْ نقرأها في رائعة تاريخية جديدة له هي «بوتقة الإسلامThe Crucible of Islam « (G.W. Bowersock, Harvard University Press 2017). الحدث الفارسي في القدس تلاه مباشرة حدث آخر، لا يقل رمزية تاريخية ودينية عنه: هجرة بعضٍ من المؤمنين الأوائل بالرسالة النبوية إلى الحبشة (إثيوبيا)، إلى أكسوم Axum، حينما كان نجاشيها آنذاك يدعى ربما ب أرما Armah (ص72)، والذي اشتهر تراثياً بضيافته لهم. لماذا إثيوبيا؟ سؤال قلّما أجيب عنه بذائقة تاريخية. وبغض النظر عن الضيافة، فإنه حدث لا يمكن عزله سياسياً عن مشاهد الكرّ والفرّ بين السياسات الإثيوبية المدعومة بيزنطياً (وتحديداً تلك التي تجلت في اليمن. لنتذكر أبرهة ونقشه المشهور) وبين الفرس، حيث اليهود من أقوى أذرعهم في المنطقة. ضيافة أرما كانت تحمل وجهين: الأول، سياسياً والثاني استكمالياً لخريطة التحالفات (هل نقول التوحيدية- السيا-إمبراطوية الجديدة؟) في مواجهة فارس وحلفائهم اليهود من ورائهم. بويرسوك، التاريخي الكلاسيكي المحنك، يمشي بهذه الرؤية إلى أقصاها. وبغض النظر عن اتفاقنا مع هذا أم لا، فإن أمامنا حدثين، من بين أخرى وبالسياق التاريخي ذاته، ستكون لهما مساحة تحليل تاريخية رصينة، ربما ورثها بويرسوك، كما يقال، عن ريتشارد بينتلي Richard Bentley (1662–1742). بويرسوك بالفعل برع في الاستطيال بهذه المساحة التاريخية إلى نحو قرن قبل بداية البعثة النبوية (حيث تسليط الضوء في الفصل الرابع حول «إثيوبيا وشبه الجزيرة العربية»)، إلى حين تدشين عبد الملك بن مروان مسجد وقبة الصخرة: المعلم الذي وضع الحدود النهائية لخرائط التوحيد المشرقية، والتي عليها إلى اليوم موحدو الديانات الثلاثة. ليست هذه الحدود سياسية، وبويرسوك لم يرد ذلك فقط، بمقدار ما هي دينية تضع الديانات الثلاثة على حافة وعرة، حافةٍ كان موسى بن ميمون قد أعلمنا عنها في رسالته الشهيرة إلى يهود اليمن سنة 1172، حينما كان يكتب عن حركة «الموحدين» في المغرب وما حصل بحق اليهود. لكن قبل ذلك هناك خريطة من الثقافات المشرقية والمشرقية الهلنستية، خريطة من الأديان (من أقصاها توحيداً إلى أعمقها وثنياً)، كلٌّ منها كانت له الكلمة بما حصل بعد ذلك. هذا بعدٌ تاريخي عميق كان الكتاب من خلف أسطره يرغب في تأكيده. من هنا سنلتقي مثلاً مع تحليل جميل في الكتاب حول ماذا تعنيه الوثنية وجدلها اللغوي والمفاهيمي مع «الإثنوي» أو الإغريقي (الهلنستي) و «اللايهودي» أو «اللامسيحي»...الخ، (وهو التحليل، على ما أذكر، الذي سار به بويرسوك أولاً في كتابه الجميل Hellenism in Late Antiquity, The University Of Michigan, 1990). بويرسوك ينقل هذا الجدل الآن مع البيئة العربية، أو لنقل بوتقة الإسلام بكل ما تحمله من ثقل تاريخي وثقافي وديني. الحديث عن قبة الصخرة وعن هذه الحافة الوعرة هو بالفعل ما ينهي بويرسوك درسه (ربما يخرج القارئ حينما يقرأ عن هذه الحافة متألماً بعض الشيء: كيف للأديان الثلاثة التي خرجت من بوتقة هذه الحافة قد مثلت نفسها أقنومةَ الصراع بينها). إنه حديث بالفعل مثّل، وما زال، مساحة إغراء قوية للكثير من الكتاب الغربيين حينما يتناولون صعود الإسلام وما عناه تشييد هذه القبة والنقوش التي تحتضنها. حسناً، بويرسوك لا يكتفي بهذا، بل يمتد بالتحليل ليتناول كل جهود عبد الملك بن مروان ليصل إلى القول أنّ الحركة الدينية الإسلامية الجديدة التي بدأها النبي في مكة قد أخذت «شكلها التحديدي» على يد ابن مروان (ص137)، لكن بعد القضاء على خلافة عبدالله بن الزبير في مكة: إنه الشكل الجديد الذي تجلى، من بين ما تجلى به، من خلال إزالة الصليب من على العملة التي وَرثها ابن مروان عن بيزنطية وفرض العربية كلغة إدارية ورسمية للدولة الأموية، والأهم تحديد الجهة التي سيسير عليها الإسلام من لحظة ابن مروان فصاعداً (ص138). هذه هي رؤية بويرسوك والعديد من الكتّاب الغربيين غيره. أمامنا قراءة تاريخية، لنقل سريعة، موجزة، بيد أنها بالوقت ذاته تختصر جهود الكثير من الدراسات الجدية والتاريخية والتي يقف على رأسها درس عزيز العظمة في كتابه حول صعود الإسلام في العصر القديم المتأخر « The Emergence of Islam in Late Antiquity, Cambridge University Press 2014». سيكون من المبالغة إذا قلنا أنّ كتاب بويرسوك قد قدم جديداً لما كتب إلى الآن بخصوص هذه الحاضنة التاريخية التي احتضنت ظهور الإسلام في غرب شمال شبه جزيرة العرب. بويرسوك نفسه لن يدّعي أنه سيقدم رواية جديدة (ص 9) عما قدّم بهذا الشأن. لكن أيضاً سيكون من الإجحاف عدم الاعتراف أنّ كتاب عزيز العظمة يبقى إلى الآن خير رواية نقدية وتاريخية تخبر عن صعود الإسلام لا من خاصرة العصر القديم المتأخر، بل من عمقه، بكل ما يحمله هذا العصر من ثقل ثقافي وتاريخي وديني وسياسي: ثقل نقرأه في الإسلام وفي الكيفية التي صعد بها الإسلام. وبالفعل لن ينسى بويرسوك في مطلع هذا الكتاب التذكير بأنّ عمل عزيز العظمة ليس له نظير في الدرس النقدي الحديث (ص6). * كاتب سوري