نزل من سيارته مكفهراً. طرق الباب بشدة واستدار. أمر السائق بالصعود خلفه بالصحف. دنا من المنزل المطل على النيل. أعرض عن الالتفات للموكب الضخم الذي يخترق الشارع الرئيسي متجهاً للقصر العتيق. أدبر قاصداً الصعود. واجه تحيات مجاوريه برأس خفيض. طأطأ رأسه للأكف المرفوعة والظهور المحنية... ركل باب شقته... وعكس ما اعتاد عليه منذ سبعة وأربعين عاماً... لم يلق التحية! جلس على كرسيه الوحيد المواجه للمرآة الكبيرة الموضوعة في غرفة المسافرين. وضعت أمامه الصحف فانتبه ولم يلتفت: - أحضّر الغدا؟ - مليش نفس. استدارت وهي تتمتم بعبارات ساخرة. انكفأ يحل رباط حذائه فوقعت عيناه على عناوين الجريدة الرسمية: «لا تفكير في خصخصة القناة»، «قبلنا التحدي وعلينا الاستعداد وبكل قوة لدخول الألفية الثالثة»، «الحتمية التاريخية تدفعنا دفعاً للخصخصة.. فقد صار العالم قرية كونية واحدة»، «التمسك بالهوية هو طريقنا للبناء الحضاري واللحاق بركب التقدم». حدق ملياً عابثاً بفروة رأسه. فطفت الخصلات البيض الغزيرة لزجة تتدلى فوق العينين الضيقتين. شرد قليلاً، ثم هب واقفاً يتكئ على مسند المقعد المتهالك. قرر التخلص من ملابسه. فكّ الأزرار النحاسية التي بدت منطفئة. حبات العرق تنزلق من صدره إلى بطنه المنتفخ. حاول أن يلملم أشلاءه وقت سقوط البنطال الكاكي. دنا مستنداً بضلفة الباب الخشبي العتيق الفاصل بين غرفته ودورة المياه الكابية اللون. نزع السترة بعنف فهوى النسر الذهبي مصطدماً بصفحة المرآة القديمة. انتشل سيفيه المتقاطعين فسقطت بطاقته بجانب القدم اليمنى. جثا على ركبتيه يلملم حاجاته ثم جلس على الأرض ونزع جوربه الأسود نزعاً. لاحت الندبة القديمة متورمة. محفورة وغائرة قرب «أنكل» القدم. استقام واقفاً فاصطدم بزجاج المرآة. هالته سحنته الشاحبة وشاربه الكث واللحية الرمادية المصبوغة بصفار كئيب قرب الذقن... المخيلة تجتر صوراً شتى من ماض بعيد. سمعها تأمر الخادمة بإحضار الكلبة الصغيرة للاستحمام. - «بدري على ميعادها يا ست هانم»؟! صرخت.. فاستقبل الصفعات تخترق أذنيه... طاشت مصطدمة بأوداجه فهرش قفاه المعروق. وقتها فقط أدرك ماهية وجوده... استحضر محطاته ونظمها بتسلسل تقليدي. النياشين والأوسمة المعلقة على الحائط البعيد، الصورة الوحيدة التي تجمعهما يوم الزفاف والتي تتوسط الجدار المتآكل. استدار بغتة... سحب سلاحه ال 9مللي. تشبث بالخداع. صوبه بدقة، الطلقات تشطر فردتي الحذاء. انتعل نصفي حذائه الأماميين. سار بركبتيه محلقاً يتقافز مترنحاً قاصداً الشرفة الخالية، مطلاً على عمق السماء. أحس برأسه يستقبل النجوم البراقة التي تتهاوى فتسقط مخترقة صفحة ماء النيل.