لا يتطلب كشْف ملفات الفساد في العراق إرادة نزيهة فحسب، بل يتطلب إمكانات أمنية وعشائرية للحماية من عمليات الاغتيال المنظَّمة او الملاحقات العائلية التي باتت اداةَ تسلُّط في ايدي الفاسدين. والظاهرة العشائرية المتأصلة في المجتمع العراقي أتاحت في كثير من الأحيان، ان يتحول القتل الى حل سهل، تعقبه دية توقف الملاحقات القانونية. لكن بعض المسؤولين العراقيين، ومنهم محققون في «هيئة النزاهة» المعنية بقضايا الفساد، يتعرضون لتهديدات عشائرية من مسؤولين كبار او من مستثمرين او مقاولين متورطين في عمليات فساد. ويقول احد المحققين في هيئة النزاهة، رافضاً كشف اسمه، ان تكليفه بالتحقيق مع احد المسؤولين اضطره الى الخضوع لجلسات محاكمة عشيرة هذا المسؤول. ويُفْرِط معظمُ المسؤولين العراقيين في استخدام أسماء عشائرهم، مبطنين تهديداً بإمكان تحوُّل الخصومات السياسية او الإدارية إلى ملاحقات عشائرية. وقال صباح الساعدي، النائب المستقل الذي اشتهر بإثارة قضايا تتعلق بالفساد، إنه تعرض اخيراً لملاحقات وضغوط من مسؤول امني كان اتهمه بأنه مشمول باجتثاث البعث، وأنه ساهم في قمع التظاهرات الأخيرة. وصنَّف الساعدي التهديدات التي يتعرض لها المعنيون بكشف ملفات الفساد الى ثلاثة اصناف: تهديدات بالقتل تطلقها مافيا الفساد والمستفيدين في مراكز متنفذة في السلطة، ثم تهديدات سياسية بإسقاط المنشغلين بكشف قضايا الفساد والادعاء عليهم، بدعم من أحزاب، لذكرهم اسماء مسؤولين متورطين بالفساد ومقاضاتهم بموجب قانون القذف والتشهير. أما النوع الثالث، على ما قال الساعدي، فتهديدات إدارية، كسعي الحكومة الى عرقلة إقرار قوانين معنية بمكافحة الفساد والضغط لتبرئة وزراء من تلك التهم. وروى مسؤول في إحدى الوزارات، أنه اضطر الى أن «يفتدي رأسه» بعدما كشف قضية فساد تورط فيها متنفذ حزبي. وقال هذا المسؤول إن اهالي المدن أكثر بعداً من ابناء الريف عن استخدام السلاح العشائري لفضِّ خصومات شخصية او إدارية او سياسية، لكنهم اضطروا للعودة إلى حماية أنفسهم. وعلى رغم ان قصصاً، على غرار استخدام وزير سابق الدية العشائرية للاقتصاص من وكيل وزارته الذي خرج في برنامج تلفزيوني لاتهامه بملفات فساد، غدت من الامور المتداولة، الا ان تفشي هذه الظاهرة اخيراً يشير، على ما يقول الاستاذ في كلية العلوم السياسية ياسين البكري، الى معضلتين: تتعلق الاولى بتقدم التقاليد العشائرية على القانون وتدخلها في ادارة الدولة والسياق الوظيفي، والثانية إشكالية مكافحة الفساد، لأن تلك التقاليد توفر الحماية للمفسدين والقتلة. ويروي اطباء روايات لا تحصى عن اضطرارهم إلى دفع دية لعشائر مرضى توفوا خلال خضوعهم للجراحة او اثناء إسعافهم. وبعض الروايات اقرب الى الخيال: اضطرت شركة عالمية الى دفع خوّة نيابة عن احد مديريها العراقي لفصله موظفين عندما اتخذت قراراً بتقليص كوادرها. لكن الروايات تحمل دلالات اكثر خطورة حين يتعلق الامر بالشأن السياسي او بجرائم ارتكبتها ميليشات او مسلحون في فترة الحرب الطائفية. تحدث رئيس هيئة النزاهة رحيم العكيلي في تشرين الاول (اكتوبر) 2009 عن تورط شركات عالمية كبرى بالفساد في وزارة التجارة، واعداً بكشف اسماء هذه الشركات، لكنه لم يفعل إلى الآن. وحتى العكيلي، الذي أعلن بداية العام نيته كشف قضايا فساد وتزوير، قد يتعرض للإقصاء من منصبه في حركة تغييرات ادارية جديدة، مثلما حصل مع رئيسي الهيئة السابقَيْن راضي الراضي وموسى فرج، فالاول اتُّهم بالفساد وفرَّ الى الولاياتالمتحدة، والثاني تحول الى معارض، وقد أكد ان تنحيته جاءت بسبب كشفه قضايا فساد لا يريد احد التطرق اليها. ويروي سياسيون قصة تورط مسؤولين كبار في تهريب آثار الى دولة مجاورة، وقد تعرضوا لتهديدات ب «نسفهم وعائلاتهم»، على ما قال أحد النواب، الذي شدد على عدم كشف اسمه او القضية التي حاول إثارتها. ويشير تقرير منظمة الشفافية الدولية، الى ان العراق احتل عام 2010 المركز الثالث عالمياً في مستويات الفساد، فيما يؤكد رئيس البرلمان أسامة النجيفي نيته فتح ملفات فساد كبيرة بالتعاون مع هيئة النزاهة. لكن الكثير من النواب يشكّون في ذلك، لأن بعضها يهدد أسماء كبيرة. وتقول عضو لجنة النزاهة عالية نصيف ل «الحياة»، إن اعضاء اللجنة يتعرضون لضغوط مختلفة بسبب كشفهم قضايا فساد تتعلق بمسؤولين كبار. وتضيف أن «بعض هذه التهديدات لا يمكننا كشفها، لحساسيتها. وهناك أيضاً ضغوط سياسية لا يلمسها الآخرون، لكنها ملموسة لدينا». ويربط النائب الساعدي بين حرق وزارات او قتل موظفين بمحاولات التعتيم على قضايا فساد كبيرة.