«الجليد» هي أحدث ما كتب المصري صنع الله إبراهيم من روايات (دار الآداب ودار الثقافة الجديدة، 2011). يبدو الغلاف لافتاً، إذ ظهر في الجزء العلوي منه مظروف كتبت عليه كلمة جليد بالروسية ووضع داخل قطعة ملابس نسائية، في حين تقبع زجاجة فودكا - المشروب الروسي الشهير - في أسفل الغلاف. يؤسس هذا الغلاف مباشرة لصورة نمطية عن روسيا، ثم يأتي الغلاف الأخير ويؤكد ذلك فيقول إن الراوي «يكشف لنا المسكوت عنه من خفايا الحياة في الاتحاد السوفياتي السابق وجذور انهياره اللاحق. بانوراما للحياة الاجتماعية والسياسية في روسيا السوفياتية على عهد بريجنيف. دراسة غير مسبوقة للسلوك الجنسي». هكذا يؤكد الغلاف الأمامي والخلفي للقارئ أنه مقبل على كشف «المسكوت عنه»، وهو موضوع مغرٍ بخاصة عندما يتعلق الأمر بذاك العملاق الأسطوري: الاتحاد السوفياتي. تعلن الرواية في المفتتح أن كل الأحداث تدور عام 1973، وهو تاريخ مهم وحاسم للقارئ العربي بلا شك، إذ انقلب فيه الكثير من موازين القوى في العالم في شكل عام وتغيرت خريطة العلاقات السياسية ووقع الكثير من الهزات العنيفة لليسار العربي. إلا أن القارئ - حتى بعد أن يقطع شوطاً في القراءة لا بأس به - لا يجد توقعاته كاملة. تتخذ الرواية من بيت الطلبة مقراً لها، فمعظم الأحداث تدور في غرف ذلك البيت وممراته، وأحياناً في بعض الشوارع، والأهم داخل حافلات المترو. تحتل المساحة المغلقة الجزء الأكبر وهو احتلال مبرر بفعل الجليد الذي يكسو كل شيء. لا توجد أي شخصية محورية في هذا البيت، فالجميع يتفاعل بالطريقة نفسها التي ترتكز في مجملها على الأكل والشرب والعلاقات المتعددة التي لا تدوم كثيراً، بل تبدأ وتنقطع بالقليل من الكلام. يضم بيت الطلبة مختلف الجنسيات، فهناك أفارقة وعرب، إضافة إلى الجمهوريات السوفياتية، إلا أن الراوي يفضل صحبة هانز الألماني (من ألمانياالشرقية آنذاك). هكذا يتحول البيت إلى ماكيت مصغرة للاتحاد السوفياتي في السبعينات من القرن الماضي. وعلى رغم ذلك، ومع ان الفكرة قماشة مغرية للروائي، لم يستفد صنع الله إبراهيم من خيوطها في شكل كامل، ولا أفترض هنا أن على الكاتب تلبية ما يدور في ذهن القارئ تحديداً، ولكن أفترض أنه سيوظف كل المتاح في الشكل الذي يراه ملائماً لمزاجه السردي. ينتهي السرد كما بدأ من دون تطور في الحدث أو في الشخصية، فالسرد مغلق كما المكان بالضبط. ولوهلة يبدو كأنه قد اكتفى بتصوير علاقات عابرة بين هذه الثقافات المختلفة، علاقات تتأسس على مبدأ المتعة اللحظية البحتة. وعلى رغم تعدد اللقطات الإنسانية العابرة، إلا أنها ليست كافية بالقدر الذي يتيح للقارئ الإلمام بالنسيج المجتمعي في ذلك الوقت. وعندما يتوهم القارئ أن هناك تحولاً على وشك الحدوث في دفة السرد - مشابهاً لما حدث في رواية «ذات» مثلاً - يبدو الراوي وكأنه مهموم بالاطمئنان على ذكورته، بل ومنكفئ عليها، أو حتى متلصص عليها (في رواية «التلصص» التي صدرت عام 2007 كان الراوي يتلصص مجازاً على العالم من حوله كتعبير عن مرحلة اكتشاف)، وعلى رغم أن ما يشبه هذا الانكفاء على الذكورة قد ظهر في شكل آخر في رواية «أمريكانلي» (2009)، إلا أن الاشتباك مع التاريخ أو كيفية كتابته كانت هي محور العمل. وفي شكل مفارق على مستوى التقنية، يكشف الراوي عن تلصصه على ذكورته كشفاً جلياً، في حين أنه لم يوظف ما كان يقوم بقصه من الصحف المصرية الصادرة في ذلك العام والتي حصل عليها من أحد أفراد البعثة المغادرين. ما بين الانكفاء الذكوري - وهو ما قد يبرر ما جاء على الغلاف الخلفي «دراسة غير مسبوقة للسلوك الجنسي» - وروتينية الأكل والشرب وسماع الموسيقى، لا نلمح من الاتحاد السوفياتي سوى الطوابير الطويلة من أجل الحصول على أي شيء، إضافة إلى بعض شذرات التذمر من شخصية هنا أو هناك. قدمت رواية «الجليد» لقطة طويلة للمشهد نفسه وكأن الكاميرا أبت أن تتحرك من مكانها، على رغم أن تثبيت الكاميرا في مكان واحد يفضي إلى التوثيق من منظور معين. إلا أن المكان الذي اختار صنع الله إبراهيم أن يضع فيه الكاميرا لم يحقق الغرض المأمول على مستوى البنية وإن كان قد حققها جزئياً على مستوى الشكل.