وصلنا قبل صلاة الأنجيلوس بقليل إلى دير سيدة سينانك القائم في السهل الأسفل وسط حقول الخزامى والكروم بعدما عبرت بنا السيارة طريقاً جبلية ضيقة متعرجة تشق الغابة. كانت الأشجار على جانبي الطريق تمد أغصانها الداكنة والعارية تتخللها أضواء سماء الأصيل الليلكي والبرتقالي الضارب إلى حمرة والأرض تغطيها الأوراق البنية والصفراء النحاسية كما هي في رسوم بول سيزان الذي لم يكف عن رسم مشاهد البروفانس في كل الفصول. غادرنا آرل بعد الظهر في سيارة بريسكا الصغيرة... سحب فضية عابرة كانت تتلامح من وراء أشجار الدلب مثل أرخبيلات... ما أزال أرى بريسكا إلى جانبي بالروب الأصفر ذي الزهور الدقيقة البيضاء والخضراء مركزة انتباهها على القيادة محنية رأسها قليلاً إلى الأمام صامتة سوى بعض الجمل المتقطعة كانت تطرأ من فمها وهي تصف لي الأماكن التي كنا نعبرها بذلك الصوت الطفولي الأنثوي الرقيق الذي يزيده جرس اللغة الفرنسية رقة وأنثوية... كان جلياً لي مداراتها لمشاعرها في تعثر كلامها... أدري كانت تخفي شجناً دفيناً شجن الإنسان الذي يحب من طرف واحد وهي معاناة متواصلة مزيج من جحيم وسعادة كنت أحس بتلعثمها فهي تريد أن تبوح ولا تبوح بيد أنّي وبكل حذر تجنبت استثارة الموضوع. أتذكر... القصة أنها ومنذ سنوات التقت في إحدى مدن الجنوب على مشارف الصحراء بذاك الشاب الفارع في برنسه الأسود كان الوقت أول الليل كانت المدينة هي القيروان وفي حواريها القديمة ذات الحجارة الرملية الصفراء تبدى لها الشاب وسط ذاك الإطار المسرحي الاكزوتيكي في ضوء الليل الهابط وتحت أقواس العمارة الإسلامية مثل شخصية تراجيدية. قالت صديقتها التي صحبتها في تلك الرحلة والتي روت لي القصة: بدا لنا مثل أمير شرقي من ألف ليلة وليلة طلع علينا فجأة كما لو انشق عنه جدار. اتجه نحونا وكان يتحرك رشيقاً في برنسه الأسود بهامته الطويلة شخصية رومانسية صورة ممثل تراجيدي في المسرح الإغريقي شيء شبيه بقيافة إيزابيل إيبرهارت وهي تطوف صحراء الجزائر التي تشغل مخيلتنا الغربية وبلحظة تغيرت أشياء عميقة لدى بريسكا... كما تقول الحب من أول نظرة... صعقت بريسكا. هكذا وصفت لي جرترود بعد سنوات طويلة ذاك اللقاء تلك اللحظة التي غيرت شيئاً في مصير صديقتها. قالت كان كل شيء مهيأ لديها للدخول في تجربة ترتفع بها: لعلها قوى المكان اللامرئية الإطار الغرائبي وسأمها من حياتها الخاملة المشاعر وتحول علاقتها بآلان إلى مزيج من روتين وواجب... ومن ذاك اليوم مستها عدوى جرثومة الجنوب... وقعت في الحب من طرف واحد وكتمته. استحضرت كل هذا في لمحة بصر وأنا أتأمل جانب وجهها لم أرد أن أثير معها ذاك الماضي الصامت والحاضر بقوة في خلفية كلامها... ولو أنها كانت تصف الريف الذي نعبر وهي تدري أني قادم من تونس، لعلني كنت في وعيها حلماً لحلم آخر. كانت تكلمني ولعلها كانت في أعماقها تكلمه هو... هو كما صنعته مخيلتها. كنا في تلك اللحظة قد عبرنا فونفياي حيث طاحونة ألفونس دودييه ثم غورد، كافايون وحقول البروفانس بقراها السعيدة وبيوت القرميد وأشجارها العملاقة... صروحها القديمة كنائسها الريفية الصغيرة طواحينها التي لم تعد تدور مع الرياح حقول الذرة ومساحات السلجم الصفراء. بساتينها زهور الخزامى وعباد الشمس التي تملأ لوحات فان غوغ سواقي المياه بين أشجار القصب والدروب الريفية والجسور الخشبية المتحركة التي تطير من فوقها العصافير... النوافذ ذات المصاريع الخشبية والتي تتبدى الدانتيلا من وراء مربعات زجاجها خيول الكامارغ العتية السوداء وهي تخوض وسط المستنقعات وسفينة قديسات البحر اللواتي جئن قبل نحو ألفي عام من أورشليم القدس في ذاك القارب الخشبي الصغير الذي رأيت صورته في قرية قديسات البحر محطات قطارات القرن التاسع عشر المقفرة التي يعلو جدرانها السخام بحديدها الصدئ والتي لم تعد تمر بها القطارات... محطات شاهدة على حقبة عمارة الحديد آخر القرن التاسع عشر أو قل ملحمة العمارة الحديدية: من باريس وبرج إيفل وقناطر السين إلى كوبري إيفل في القاهرة إلى جسور بروكلين وحديد عمارة فيينا ولندن كان العصر الذهبي لعمارة الحديد. أخيراً وعندما بدأنا الانحدار لاح الدير من بعيد بحجارته الصفراء القديمة مثل قلاع القرون الوسطى بدا في الأول ضئيلاً تخفيه الأشجار مثل عش وسط الأعشاب... لمحناه في الأسفل وكأنه في قاع حفرة كبيرة ثم ومع اقترابنا بدأ يتجلى تحت غلالة شمس برتقالية غاربة. دير تحيطه الجبال مثل أسوار عملاقة دير منقطع في صمت هذه النواحي التي اختارها الآباء قبل قرون ملاذاً للعبادة والعمل في الحقول المحيطة به. انسابت السيارة إلى نهاية الطريق المسفلتة حيث اعترضتنا ساحة كبيرة تلفها الغابة من كلّ جانب ساحة جعلها الآباء موقفاً للسيارات بعيداً عن الدير حماية لأنفسهم من ضجيج العالم. نزلنا من السيارة لنسير مسافة نحو مئة متر أو أكثر فوق مسرب ريفي مسرب حجري يوصل إلى بوابة الدير. كان ظلام خفيف قد بدأ يخيم على الغابة والصمت يلفنا من كلّ النواحي صمت غائر بعيد يقطعه من حين لآخر خفق جناح طائر ليلي يمرق فوق رؤوسنا ووقع ارتطام أحذيتنا بحجارة الدرب وبعض أصوات السياح الخافتة المتلاشية في الزرقة الرمادية الشفافة التي بدأت تغزو السماء وتزداد الآن دكنة. حثتني. أسرعنا الخطو. سألتها لماذا هذه العجلة قالت لأنه إذا ما حان وقت صلاة الأنجيلوس Angèlus لن نستطيع الدخول إلى الدير... وعقبت نحن جئنا لسماع الإنشاد الغريغوري ورؤية الآباء وهم ينشدون وللتفرج على هذا المعلم التاريخي الذي يعود للقرن الحادي عشر عندما تأسس هذا الدير لطائفة السستريين شبه الصوفية والتي تقوم تعاليمها على نشدان الصفاء الداخلي والبحث عن الطريق الذي يفضي إلى الرب وهم يتوسلون إلى ذلك بعبادات تقوم على الصمت والإنشاد الديني ويرون أن للإنسان حرية الاختيار بين الضلالة والهدى وهم يتعاطون الآداب والعمل اليدوي. هي أماكن شبيهة بالتكايا والخانقاه في بلاد المشرق. قلت لبريسكا مضى زمن لم آت إلى زيارة دير سينانك أتذكر أخذتني جرترود لنشهد هذا المعلم الجميل بأبراجه وصروحه المهيبة وقاعاته الحجرية شبه المظلمة التي تبعث في النفس هدوءاً عميقاً. قالت أسرع سنتحدث في ما بعد وسبقتني إلى البوابة الخارجية ومنها دلفنا إلى قاعة دائرية تعلوها قبة تفضي إلى القاعة الكبرى. كانت هناك أضواء برتقالية تعلو جدران القاعة وآباء ينشدون تراتيل مثل الوجيب العميق تزيد المكان جلالاً... تذكرت صديقي الراهب إيريك بيني الذي جاء لدير الآباء البيض في تونس كنت أتردد بين جامع الهواء والمكتبة والدير... تذكرت الفقيه أحمد بصوته المنغم والذين يذكرون الله قياماً وقعوداً في صحن الجامع أيام الصيف قبيل صلاة المغرب. غادرنا الدير أخيراً. ونحن في الطريق للسيارة قالت: قل لصديقك لو يأتي سآخذه في جولات طويلة... كانت كما لو أنها تترجاني أن أشجعه على المجيء... إذن لم تدعني بل كان هو من رافقها هذا المساء لزيارة دير سينانك. صمت... ماذا أقول لها عن تلك الجروح العميقة التي قد يتسبب فيها سوء التفاهم الثقافي والحضاري داخل هذا النوع من العلاقات الحبية التي تتم بين شخصين من عوالم ثقافية متباعدة؟ كانت يهودية تونسية هاجرت عائلتها أواخر القرن التاسع عشر إلى الاسكندرية هي التي أفاد لورنس داريل من أحاديثها في بناء شخصية جوستين في رباعية الاسكندرية. ساعدته معرفتها للحب الشرقي في إدراك تفاصيل وتعقيدات نفسية المرأة الشرقية وما تضفيه على تلك العلاقات الحبية من ظلال وما قد تخلفه من جروح لدى من عاش من الأوروبيين في مدن الجنوب... مدّته تلك اليهودية التونسية كما يذكر في دفاتره ببعض مفاتيح الدخول إلى عالم علاقة جوستين بنسيم الثري القبطي صاحب الثقافة الإنكليزية الرفيعة... كان الطيب صالح وهو يعالج هذه الإشكالية أكثر عمقاً من داريل في تحليلاته لنساء مصطفى سعيد الإنكليزيات وفي إدراكه للفجوة الثقافية الحضارية التي تفصل بطله عن تلك النسوة لأن اللقاء لدى الطيب صالح ليس ذاك الذي يتم على السطح بين شخصين منفردين معزولين عن قيم ثقافتهما وحضارتهما التي تساهم بقسط كبير في خلق سوء التفاهم. الطيب صالح يسبح بيسر في بحار الثقافتين العربية الشرقية والغربية. مكتبة مصطفى سعيد التي تحوي أمهات كتب حضارة الغرب شاهدة على إيغاله في العالمين... من التراث الإغريقي والروماني إلى «انهيار الإمبراطورية الرومانية» لغيبون و... بينما لم يكن لورنس داريل يعرف سوى حضارة الغرب. كان لورنس داريل يعمل أيام الحرب بقلم الاستخبارات الانكليزية في الاسكندرية ويمر بأزمة عميقة مع زوجته الثالثة نانسي التي مثل جوستين غادرته لتذهب إلى القدس، نانسي اليهودية الشرقية. اتكأ داريل على الفلسفات الغنوصية الشرقية لتحليل سوء التفاهم بين النساء والرجال وعلى التحليل النفسي لتتبع حواجز جوستين النفسية وهستيريتها وشذوذاتها الجنسية... كنت أسمع جون جاك بوان وأنا إلى جانب بريسكا ونحن عائدان إلى آرل تحت قمر البروفانس الخريفي أسمعه في صمتي يحدثني في دير ساوورج بلهجته التعليمية: هذا الحب كاذب نسمّيه حب الجنوب.