اللحظة التي انتهى فيها التصويت في الانتخابات العراقية التي أُجريت في 30 نيسان (ابريل) الماضي، كانت نقطة البداية الرسمية لمحاولة الإجابة عن تساؤل واحد ظهر وكأنه مصيري، وضاغط، ومسيطر، مفاده: «هل يحتفظ رئيس الوزراء نوري المالكي بولاية ثالثة ام لا؟». العملية السياسية، والنشاطات الحزبية والاعلامية والشعبية، والحوارات والتداخلات الاقليمية والدولية، وكذلك وجهات النظر الدينية تمحورت حول هذه القضية، وكشفت فداحة الخلل الذي يحيط العملية السياسية في العراق من كل جانب، فيختصرها في منصب رئيس الحكومة، فيما يغدو منصب لا يقل اهمية وخطورة وحيوية هو رئاسة الجمهورية مجرد وظيفة «تشريفية» هامشية. النتائج الرقمية للانتخابات العراقية تتطلب قرابة شهر لتعلن بصورة «اولية» وشهر آخر للإعلان النهائي، وهذه النتائج تكشف للمرة الاولى عن صراع بين توجهين، احدهما يمثّله المالكي المتقدم على خصومه في عدد المقاعد، يذهب الى اعادة تعريف العملية السياسية في العراق برمّتها، وفق مبدأ «الغالبية السياسية»، والثاني تكاد تتفق عليه اطراف الوضع السياسي العراقي الاخرى ويطالب بإعادة انتاج «التوافق السياسي» بصرف النظر عن التسمية «شراكة – شراكة أقوياء – مشاركة - محاصصة». الواقع ان المالكي الذي لا يبدو ان نتائج الانتخابات ستساعده في تحقيق اهدافه، لم يكن يسعى فقط الى الحصول على ولاية ثالثة وتشكيل حكومة تتوافق مع توجهاته، بل إنه قرأ الدستور العراقي وآليات تشكيل الحكومة، على اساس أن رقم 165 مقعداً، لا يؤهله فقط لتشكيل وزارة جديدة، بل انه في واقع الحال يمنحه حق اختيار رئيس الجمهورية، الذي يتطلب انتخابه في المرحلة الاولى من التصويت 219 صوتاً. وفي حال فشل الوصول الى هذا الرقم، يتم الانتخاب بين المرشحين واختيار اكثرهم أصواتاً بصرف النظر عن شرط حاجز الثلثين. صلاحيات مع وقف التنفيذ اشتكى الرئيس العراقي جلال طالباني مراراً، من افتقار منصبه الى الصلاحيات، لكنه بفعل التوافقات السياسية العامة في البلد، وأيضاً بسبب مرضه وغيابه الطويل عن ممارسة عمله في ولايته الاخيرة، لم يكن اساساً قد مارس الصلاحيات التي منحها الدستور للرئيس، ولم تظهر تلك الصلاحيات في شكل عملي إلا في حادثة واحدة تمثلت في رفض الرئيس صيف 2012 التقدم بطلب الى البرلمان لسحب الثقة من المالكي. وسبق لطالباني ان اشار من باب التوصيف القانوني الى ان الدستور يمنحه صلاحيات تنفيذية عندما يصف السلطة التنفيذية في المادة 66 منه بأنها «تتكون من رئيس الجمهورية، ومجلس الوزراء» حيث لم يكن لهذا النص اي حضور عملي في الحياة السياسية طوال السنوات الثماني الماضية. وغياب الفاعلية الإجرائية لرئيس الجمهورية، عوضه طالباني، في مناسبات مختلفة بلعب دور الراعي للتوافق السياسي بين الاطراف، معتمداً على ثقله السياسي الشخصي او الحزبي، اكثر من اعتماده على صلاحيات المنصب نفسه. وفي فترة غياب طالباني عن المشهد السياسي، كان الحديث عن تعويض هذا الغياب ببديل مرتبطاً هو الآخر بتوافقات بدت احياناً «مستحيلة» بين الاطراف السياسية العراقية، ما سمح بأن يتولى نائب الرئيس خضير الخزاعي مهمات المنصب الذي تحول هذه المرة الى مؤسسة ملحقة بمكتب رئيس الوزراء، فغاب تماماً عن المشهد السياسي. واقع الحال، ان استعادة الصلاحيات والمهمات المنسية، او المتغافل عنها، لمنصب رئيس الجمهورية، ستكتسب اهمية قصوى في الشهور المقبلة، بصرف النظر عن شخصية رئيس الوزراء القادم، وأهم تلك المهمات هي العمل على تحديد صلاحيات رئيس الوزراء نفسه. حق تقديم مشاريع القوانين في تموز (يوليو) 2010، اصدرت المحكمة الاتحادية فتوى بمنع البرلمان من حق صوغ القوانين وإقرارها ذاتياً وبمعزل عن السلطة التنفيذية، وهي إضافة الى فتاوى اخرى للمحكمة من بين اهم اسباب الموت السريري للبرلمان الذي بدأ اعماله نهاية العام نفسه، وعجزه عن تمرير اي قانون، خصوصاً تلك القوانين الحاكمة والضابطة للوضع السياسي المنفلت في العراق. والفتوى المثيرة للجدل، لم تأت في واقع الحال من فراغ، بل انها كما هو الحال في الفتوى التي ربطت الهيئات «المستقلة» بمجلس الوزراء، وفي تعريف الكتلة الاكثر عدداً التي يحق لها تشكيل الحكومة، قد قرأت نصوص الدستور الحافلة بالإدغام والتناقض والارتباك، من زاوية محددة جمدت في نهاية المطاف الصلاحيات الطبيعية للبرلمان، لمصلحة الحكومة. وبالطبع، فصلت «المحكمة» فتواها مستندة الى نص المادة 60 من الدستور التي يرد فيها مصطلحا «مشروعات القوانين» و «مقترحات القوانين» كما يأتي: «أولاً - مشاريع القوانين تقدم من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء. ثانياً - اقتراحات القوانين تقدم من عشرةٍ من اعضاء مجلس النواب، أو من احدى لجانه المختصة». في هذه النقطة القانونية الحساسة، طرح المدافعون عن فتوى المحكمة الاتحادية، مبررات واقعية لها، ابرزها ان القوانين التي تقدم الى البرلمان كمشروعات ونصوص يجب ان تمر اولاً عبر هيكلية الدولة، قبل ان تقدم الى البرلمان، وأن الاخير يمتلك حق رفض تلك المشروعات او قبولها او تعديلها، لكن لا يحق له صوغها في الاساس لأن صياغاته قد تتقاطع مع انظمة الدولة وإطارها التنظيمي والقانوني العام. كل الحديث الذي جرى عن الموضوع أهمل في المطلق «رئيس الجمهورية» الذي منحه الدستور على قدم المساواة حق تقديم «مشروعات القوانين» الى البرلمان، ليس مع رئيس الوزراء، بل مع مجلس الوزراء مجتمعاً. المحكمة الاتحادية لم تُسأل عن هذا النص في الاساس، ولن يمكنها دحضه لوضوحه واكتمال دلالاته، خصوصاً ما يرتبط بالمادة 60 التي تعرف السلطة التنفيذية بأنها تتكون من رئيس الجمهورية ومجلس الوزراء. والسؤال الذي يطرح في هذا المجال مفاده: «اذا كانت لدى مجلس الوزراء آليات عمل ووزارات وهيئات قانونية وإدارة تمكّنه من إمرار القوانين عبر مؤسسات الدولة، فكيف يتمكن رئيس الجمهورية من تحقيق ذلك الهدف، وهو لا يمتلك سوى مكتبه ومجموعة مستشاريه؟». الحقيقة ان الشكل العام للمواد 60/ اولاً و 66 و 73 / عاشراً و126/ اولاً، من الدستور، يمنح رئيس الجمهورية قيادة «السلطة التنفيذية» برمّتها، ويضعه موضع المساواة في هذا الجانب مع مجلس الوزراء كمؤسسة، يفترض ان تخضع بكل منظوماتها الى التنسيق مع رئيس الجمهورية للتكفل بمهمة تقديم مشروعات القوانين الى البرلمان، واتخاذ القرارات الكبيرة مثل حل البرلمان او تعديل الدستور. على مستوى التطبيق الفعلي لهذه الصلاحية، لم يقدم الرئيس طالباني اي مشروع قانون الى البرلمان سوى مرة واحدة، عندما دفع قانون «ترسيم الحدود الادارية للمحافظات»، وكان قانوناً «ذا طابع سياسي» أكثر منه آلية لممارسة الصلاحيات، لهذا سهُل إهماله. سيناريو لرئيس مقاتل ماذا اذا كان الرئيس الذي ستفرضه الانتخابات، مقاتلاً للدفاع عن صلاحياته، بل ساعياً الى المشاركة الفعلية في السلطة التنفيذية؟ واقع الحال ان الاجابة عن هذا السؤال معقدة، لأنها ترتبط بالتأييد البرلماني الذي يمكن الرئيس الحصول عليه، ومع هذا فإن استمرار التضارب بين صلاحيات الحكومة وصلاحيات البرلمان قد يمنح رئيس الجمهورية فرصة ذهبية للتحول الى الرجل التنفيذي الاول في العراق، او على الاقل مشاركة هذا الموقع مع رئيس الوزراء. لا يطرح الدستور العراقي، ولا فتاوى المحكمة الاتحادية، احتمال ان يدفع رئيس الجمهورية القوانين بشكل منفصل عن الحكومة، بل ولا ان يقدم الرئيس قوانين متضاربة مع قوانين الحكومة، لكن في حال حصل ذلك، فإن الرئيس سيخوض حرب استعادة صلاحياته عبر القوانين نفسها، فيجبر الحكومة على اخذ موافقته قبل تقديم اي مشروع قانون الى البرلمان، حتى اذا لم يكن هناك نص صريح بذلك. على مستوى تنازع السلطة، فإن منصب رئيس الجمهورية صاحب مصلحة، في تقويض صلاحيات رئيس الوزراء، الذي احتشدت نصوص الدستور، وفتاوى المحكمة الاتحادية في تدعيم سلطته. بل إن فراغ النص الدستوري العراقي، ذهب دائماً باتجاه تدعيم سلطات رئيس الوزراء، والاخير ليس من مصلحته تقديم نصوص قانونية تقوض سلطته. الاصل في اضطراب أو تداخل العلاقات بين السلطات العراقية والمناصب والمراكز وبين القوى السياسية والمكونات، يعود في الاساس الى عجز البرلمان العراقي عن اصدار عشرات القوانين التي تنقسم الى ثلاثة انواع: 1- قوانين ذات طابع دستوري، طلب الدستور العراقي بنفسه إقرارها، وهي قوانين منظمة للصلاحيات بين السلطات ومفصلة لواجبات الوزارات والهيئات والمؤسسات، تصل الى اكثر من 60 قانوناً، من بينها على سبيل المثال لا الحصر: «مجلس الاتحاد (المادة 65)، ومجلس الخدمة الاتحادي (107)، وهيئة الرقابة على الواردات الاتحادية (106)، وهيئة ضمان حقوق المحافظات والاقاليم (105)، وقانون النفط والغاز (111)، ومجلس الدولة (101)، وقانون حظر العنصرية والطائفية (7). 2- قوانين مفسرة لنصوص الدستور، ومكملة له، ومنها معالجة القضايا التي سكت الدستور عنها، مثل تعريف «الكتلة الفائزة في الانتخابات وآلية تشكيل الحكومة» (المادة 76)، وتنظيم رقابة البرلمان على أداء الحكومة بما يشمل آليات الاستجواب (61 /سابعاً)، وإعادة ربط الهيئات المستقلة بالبرلمان. 3- قوانين إجرائية تتعلق بتنظيم عمل الوزارات ودوائر الدولة، والقضايا المستحدثة والنهج الاقتصادي. 4- قوانين ذات طابع سياسي، مثل قانون الاحزاب وقانون الانتخابات الدائم، وتشكيل هيئات مستقلة جديدة وفق نص المادة (109) مثل هيئة مختصة بالمصالحة الوطنية. ان العجز البرلماني الذي صبغ الدورة الماضية (2010 – 2014) على المستويين التشريعي والرقابي، لا يمكن معالجته في ضوء فتاوى المحكمة الاتحادية، إلا عبر رئيس الجمهورية، الذي في امكانه ان يستثمر معطيات الدستور وفتاوى تلك المحكمة لمصلحة اقتسام الصلاحيات مع مجلس الوزراء، لكن حصول ذلك سيعتمد بالدرجة الاساس على شخصية الرئيس القادم، وتوجهاته، ورغبته في ممارسة صراع سياسي طاحن لإعادة تعريف موقعه في الدولة.