بينما تلجأ القوى الكبرى إلى إقامة قواعد عسكرية لها خارج حدودها استعراضاً للقوة، وتوسلاً لبسط الهيمنة والتماس النفوذ الدوليين أو تعزيزهما والحفاظ عليهما، فضلاً عن حماية مصالحها الإقليمية والكونية، يبدو جلياً أن القاعدتين العسكريتين اللتين أنشأتهما تركيا في قطروالصومال لم ترقيا بعد، إن من حيث التجهيزات والإمكانات أو التطلعات والغايات الاستراتيجية، إلى مستوى قواعد يمتلكها شركاء لأنقرة في الناتو في بقاع حيوية في العالم، أو حتى تلك التي أقامتها روسيا على الأراضي السورية. فرغم اختيار أنقرة بؤرتين حيويتين لإقامة قاعدتيها، هما الخليج العربي والقرن الأفريقي، فإن مهماتهما تنحصر حتى الآن في أمور تدريبية. ويتوقع أن يتموضع في قاعدة قطر 3000 جندي ترافقهم وحدات جوية وبحرية ومدربون عسكريون فضلاً عن قوات عمليات خاصة، بهدف تعزيز التعاون في مجالات التدريب العسكري والصناعات الدفاعية. أما القاعدة العسكرية التركية في الصومال التي بلغت كلفة تشييدها خمسين مليون دولار، فتنحصر في كونها المدرسة العسكرية التركية الأكبر خارج البلاد، إذ سيتسنى لمئتي ضابط تركي تدريب أكثر من عشرة آلاف جندي صومالي، بينما لا تشمل الخطط الحالية نشر فرقة تركية قادرة على إنجاز أي مهمات عسكرية، وفقاً لتصريحات مسؤولين عسكريين أتراك وصوماليين. وعلاوة على تطلعها إلى تأمين احتياجاتها المتنامية والملحة من الغاز القطري، وإيجاد أسواق جديدة لمنتجاتها مِن الصناعات العسكرية الآخذة في التطور، ترنو أنقرة إلى بسط نفوذها في الربوع ذات القيمة الاستراتيجية من العالم العربي، بشقيه الآسيوي والأفريقي، بدءاً مِن سورية، مروراً بالعراق، وصولاً إلى الصومال والقرن الأفريقي وخليج عدن، بما يساعد على ترسيخ دعائم التموضع الجيواستراتيجي التركي في شرق أفريقيا، ليكون منصة للانطلاق نحو عمق القارة السمراء الواعدة بأسواقها الهائلة واستثماراتها الوفيرة والمواد الخام الحيوية. ومن جانبها، رحبت الحكومة الصومالية بمساندة الأممالمتحدة والاتحاد الأفريقي وواشنطن وأبوظبي عملية بناء جيش صومالي وطني قادر على استئصال شأفة حركة «الشباب» المتطرفة. وعبر رئيس الوزراء الصومالي حسن علي خيري خلال مراسم افتتاح القاعدة التركية، عن شكره العميق لحكومة أنقرة على إنشاء مدرسة التدريب العسكري التركية، التي ستساعد في إعادة بناء قوات وطنية صومالية فائقة التدريب ولا تقوم على أساس قبلي أو مناطقي، بحيث تمثل كل أطياف الشعب الصومالي. ومع ذلك، لاحت في الأفق مخاوف مراقبين أتراك وخبراء في الشأن الإفريقي مِن أن يفضي التمركز العسكري التركي في القرن الأفريقي إلى الزج بالأتراك في أتون الحرب الأهلية المشتعلة منذ فترة في بلد قلق ومضطرب كالصومال، الذي تتضاءل، خلال الأمد المنظور على الأقل، فرص تعافيه من محنته، لاسيما بعد أن فشلت المساعي التي بذلتها الأطراف المعنية في إنقاذه من عثرته. ومثلما فجَّرت القاعدة التركية في قطر غضباً مكتوماً لدى بعض الأوساط القطرية، وألقت بظلال سلبية على علاقات أنقرة مع بقية دول الخليج العربية وواشنطن، لم تسلم قاعدة الصومال من نذر تداعيات قد تكون أشد وطأة. فمِن جهة، تتسع تدريجاً قاعدة الرفض الشعبي الصومالي تحول العلاقات مع تركيا مِن دائرة المساعدات المرحب بها إلى غياهب تمركز عسكري مقلق وطويل الأمد، حتى أن حركة «الشباب» لم تتورع عن التهديد باستهداف القوات التركية ومعداتها. ويلاحظ أن الدفء المتنامي في العلاقات بين أنقرة ومقديشو قام على تنفيذ عدد هائل من مشاريع البنية التحتية وتقديم منح دراسية لطلاب صوماليين، فضلاً عن أن تركيا أصبحت خامس أكبر شريك تجاري للصومال. وفي هذا الصدد، زار الرئيس التركي رجب طيب أردوغان مقديشو مرتين، الأولى في العام 2011، وأعقبها ضخ مساعدات للصومال تزيد قيمتها على بليون دولار، والثانية في العام 2015، وجرى خلالها توقيع تسع اتفاقات للتعاون في مجالات مختلفة. وفي المقابل أصدر مجلس الوزراء الصومالي قراراً عقب محاولة الانقلاب التي شهدتها تركيا العام الماضي، بإغلاق مدارس ومستشفى في مقديشو على صلة بالمعارض فتح الله غولن. لكن يلاحظ أن الوجود العسكري التركي لا يحظي بترحيب صومالي عام، فبمجرد اندلاع الأزمة بين قطر والدول الأربع الداعمة لمكافحة الإرهاب، آثرت ثلاثة أقاليم صومالية هي جلمدج وبلاد بنط وهرشبيلي، أن تنأى بنفسها عن موقف مقديشو المنحاز إلى قطروتركيا، وأعلنت وقوفها إلى جانب الدول الأربع، إذ تحصل هذه المناطق على دعم سعودي وإماراتي ضخم في مجال الطاقة، كما أطلقت شركة موانئ دبي العالمية مشروعاً مطلع هذا العام لتطوير ميناء بربرة التجاري وفق عقد تجاوزت قيمته 440 مليون دولار. من جهة أخرى، يبدو من غير المستبعد أن تصطدم تطلعات أنقرة لاتخاذ قاعدتها في الصومال منصة لدور تركي استراتيجي في القرن الأفريقي مستقبلاً، بتموضع موغل في القدم، لقوى دولية كبرى كالولايات المتحدة والصين وفرنسا، إلى جانب أطراف إقليمية. ولعل مهمة أنقرة ستكون صعبة للغاية إذا أرادت اللحاق بتلك القوى التي لم تعتمد فحسب في مساعيها لتقوية أواصر العلاقة مع الصومال ودول القرن الأفريقي على المساعدات الاقتصادية والمنح الدراسية وإنعاش التجارة البينية مثلما تفعل تركيا، وإنما تجاوزت تلك المجالات بمراحل، حتى أن دولة الإمارات، مثلاً، نجحت في أن تسبق تركيا إلى الصومال، حين شرعت في الاستثمار في الموانئ البحرية الحيوية هناك، كما أقامت منذ العام 2015 قاعدة عسكرية مهمة على مسافة أميال عدة من أبرز تلك الموانئ، وأنشأت كذلك مؤسسة للتدريب العسكري في مقديشو، تمكنت من تخريج آلاف الجنود من القوات الصومالية، شهد لهم القاصي والداني بأنهم الأكثر كفاءة وجهوزية في صفوف الجيش الصومالي، الأمر الذي دفع الحكومة الصومالية إلى تحميلهم مسؤولية تأمين العاصمة مقديشو. إلى ذلك، يحرك النزوع التركي المتصاعد إلى التمدد العسكري سواء من خلال عمليات في سورية والعراق بتفويض متجدد من البرلمان، أو عبر إقامة قواعد عسكرية في الخليج والقرن الإفريقي، مخاوف مراقبين مِن التداعيات السلبية المحتملة لذلك التمدد الطموح، في ظل ظروف إقليمية بالغة الحساسية في المنطقة، وفيما يعاني الاقتصاد التركي انكماشاً واضحاً وتراجعاً مربكاً ينذر بتقويض قدرته على تحمل أعباء أي طموحات وتحركات استراتيجية من هذا القبيل. كذلك، لم يبرأ كثير من الأتراك بعد من آثار التجربة التوسعية المريرة للأتراك العثمانيين، حين انتهى بهم تمدد عسكري جامح وغير مبرر ولا محسوب بدقة كافية، إلى انهيار الإمبراطورية العثمانية وتقسيمها وتفرق ضحايا مغامراتها العسكرية في مشارق الأرض ومغاربها. * كاتب مصري