توقَّفَ صيد اللؤلؤ، ولكن موسيقاه مازالت تنبعث من إحدى الدور ليلاً على شواطئ الجزيرة، وقضى الشاعر الصوفي الكبير، لكن أشعاره ظلت تتردد على شفاه محبيه، واستمرت صيحات السلف تزرع الإقدام والشجاعة في نفوس الخلف... تعابير فنية تحمل قيماً ومعاني، موسيقى تراثية تتطور بحب مؤدّيها، ومهرجان فني يمنح مشاهديه «إمكانية عيش تجربة مواجهة الآخر وجهاً لوجه، الآخر المجهول المتنوع»، هذا ما تدافع عنه «دار ثقافات العالم» في باريس منذ البداية بكثير من الإصرار والشغف. دار ثقافات العالم، التي أسسها شريف الخزندار وتديرها أرواد إسبر، لن تقدم في النسخة الخامسة عشرة من مهرجان المتخيل لهذا العام «الأشكال الاستعراضية أو الموسيقى المتحفية» ويستمر حتى آب (أغسطس) المقبل، بل تلك «الحية التي تتطور حسب إيقاعها الخاص، رغبات فنانيها، والفرق التي تتبناها، لما تمثله لها من معنى كبير» كما تقول أرواد. يمتد المهرجان طوال الربيع الباريسي، ليقدم التنوع الثقافي، التراث الشفاهي، وموسيقى العالم، من اليابان وأوزبكستان والهند إلى موريتانيا والمغرب والمكسيك مروراً بالبحرين واليمن والإمارات. ستتيح أناشيد المدائح النبوية مع الفرقة الوطنية للفنون الفولكلورية الإماراتية التعرف على جانب آخر من بلدان الخليج وإدراك ثقافتها بعيداً عن التصورات المسبقة. تجمع الفرقة كل الأجيال لتأمين نقل الأصول للفروع والتعريف بالتراث الموسيقي والشعري للإمارات كما كان في الماضي تماماً. وفي الماضي كذلك، قبل استثمار النفط في ثلاثينات القرن الماضي، وفي مكان قريب، كانت المراكب الكثيرة (لا أقل من 300 كما يقال) تبحر كل سنة في أشهر الصيف للبحث عن اللؤلؤ الثمين. وحول هذا النشاط، قامت ثقافة خاصة لعبت فيها الموسيقى دوراً رئيساً، فالموسيقيون كانوا يتواجدون جنباً إلى جنب مع الصيادين في المراكب ليصاحبوهم بإيقاعاتهم وأنغامهم عند كل مرحلة من مراحل الانطلاقة البحرية، ثم بعد يوم من الشغل، يسترخي الجميع مع غناء فُجَيْرِيّ تحت إيقاع الطبول. عقود بعد انتهاء صيد اللؤلؤ، يجتمع رجال القلالي شرق جزيرة المحرَّق مرة في الأسبوع في دار منعزلة ليغنوا أغنيات البحار والصوت ولينقلوا هذا التراث إلى الجيل الجديد. الفرقة التي تأسست في بداية القرن العشرين، حين شكل صيد اللؤلؤ حقيقة اقتصادية هي الأكثر قِدَماً في البلد. خمسة وعشرون مغنياً وعازفاً من البحرين من مجموعة القلالي، سيقدمون للجمهور الفرنسي هذا العام التراث البحريني من غناء صيادي اللؤلؤ وموسيقى العود. وعلى مسرح اللوفر، ستردد مجموعة مغني تعز، الوارثين لتقليد صوفي يمتد إلى ثمانية قرون، مؤلفات الصوفي الكبير والشاعر الذي عاش في القرن الثالث عشر في تعز، ابن علوان، هذا العارف الكبير في الصوفية اليمنية والذي لازال ضريحه يستقطب الحماسة الشعبية، كان شاعراً له مؤلفات عدة. ومن موريتانيا، المغنية والعازفة كومباني منت الورقان. هذه المغنية التي تنتمي إلى عائلة كبيرة من الغريو، إنهم موسيقيون محترفون ينتمون إلى سلالة قديمة لها مكانتها في المجتمع الموريتاني الذي يعتمد على التراتبية الاجتماعية، وهم» الحراس الوحيدون العارفون تقريباً، والذي ينقلون هذا التراث الشفاهي جيلاً بعد جيل، كما أنهم حاملو تراث الشعر المادح الذي يبرز قيم وشهرة عائلة»، ففي الماضي كانت كل عائلة من الغريو مرتبطة بعائلة نبيلة محاربة في الغالب تؤمن لها معيشتها وأمنها، تعيش في خيمة مجاورة لها وتتبعها في ترحالها لتغني حكاياتها وبطولاتها... يعزف الرجال العود المنتشر في الساحل والمرأة على نوع من الهارب لا يوجد إلا في أفريقيا. وتقدم من المغرب مجموعة أولاد البوعزاوي «العيطة»، التي كانت على مدى ثمانية قرون - ومازالت - تجذب السمّيعة من مختلف أنحاء المغرب. «العيطة» او «الصيحة التي ينادي بها السلف ليزرعوا الإقدام والشجاعة في قلوب الخلف»، نوع موسيقي تراثي موغل في القدم، ويتصل بالأساس بالقبائل العربية التي وصلت المغرب في بداية عهد الموحدين في القرن الثاني عشر. ظهر فن الحرية في فترة سيطر فيها التعصب الديني، حيث كانت الموسيقى والغناء لا يحق لهما بالوجود. ولكن العيطة تطورت بمرور الزمن وتنوعت حسب المناطق. إنها «صدى للفرح والألم اليومي، شعبية وتضج بالحياة، فن تراثي شفاهي عرف كيف يتناول مواضيع كالجمال والمتعة والحب» كما توصف. هذا النوع هو اليوم أحد كنوز الذاكرة الجماعية. ويُعتبر أولاد البوعزاوي من بين الفرق الأشهر في أداء العيطة المدينية التي نلتقيها من الدارالبيضاء إلى ستلات.