يقول أحد ممثلي الأقلية اليونانية في تركيا إن أكثر من 500 مواطن يوناني اختاروا خلال السنوات الأخيرة العيش في إسطنبول، المدينة التي تسحر الزائرين بجمالها، لإعجابهم بطريقة العيش هناك. ويعتبر هذا التطور تجاوزاً للكثير من القناعات اليونانية التي كانت حتى سنوات قليلة تعتبر تركيا بلداً معادياً وذا مستوى معيشي منخفض، تنعدم فيه الحريات السياسية والمدنية. اليونانيون هاجروا قبل 50 سنة للعمل في ألمانيا وأستراليا وبلدان أخرى عندما ضاقت بهم سبل العيش في بلادهم، وهم اليوم يقرعون أبواب دول للعمل بينها تركيا، الجارة التي تفصلها عن اليونان سنوات من سوء الفهم والخلافات. واليوم تعمل في تركيا 400 شركة يونانية مختلفة الحجم، تلقى الترحيب والتسهيل المطلوبين للعمل، على اعتبار أنها تسهم في تخفيف نسبة البطالة، فيما تقف السوق اليونانية عاجزة عن استيعاب الشباب المتعلم ذي المؤهلات العالية. هذا الأمر أنعش مراكز تعليم اللغة التركية في اليونان، كما أنعش أقسام الدراسات البلقانية والتركية في الجامعات اليونانية، وغيّر عملياً من نظرة كثيرين من اليونانيين إلى البلد الجار. الشباب اليوناني كان بطبيعة الحال، في مقدمة الفئات التي شرعت تبحث عن فرص للعمل والدراسة في تركيا، وبحسب القنصلية التركية وغرفة الصناعة والتجارة اليونانية التركية في مدينة سالونيك شمال اليونان، هناك طلبات يومية للعمل في تركيا، كما زاد عدد الدارسين اليونانيين في الجامعات التركية أخيراً بشكل كبير. عيوب النظام التعليمي اليوناني وكانت الجامعات اليونانية بعيوبها الأكاديمية ومشكلاتها الإدارية من أول الأسباب التي جعلت الطلاب اليونانيين يفكرون في الدراسة في الخارج، فنظام التدريس فيه مشكلات عديدة متوارثة منذ سنوات، يزيد منها، على ما نشرته الصحافة اليونانية أخيراً، «السيطرة الأسرية» على الجامعات، إذ يعمد الأكاديميون والمدراء إلى تعيين أبنائهم وأقربائهم في الوظائف التعليمية والإدارية في الجامعات، على رغم وجود الأكثر كفاءة منهم. إضافة إلى ما سبق، تظهر الخلافات والولاءات الحزبية بشكل كبير بين الطلاب والمدرسين، ويبدو أن الاتجاهات الحزبية لبعض الأكاديميين تمنحهم بعض الامتيازات، أو تؤخر تقدمهم الوظيفي في أحيان أخرى، وذلك تبعاً لتوجهات الحزب الحاكم ومصالح المنتفعين فيه. الاستقطاب الحزبي ملحوظ في الجامعات اليونانية بشكل كبير، إذ تمتلئ جدران الجامعات والمساكن الطالبية بآلاف الإعلانات والملصقات واليافطات الحزبية، ما يجعلها اقرب إلى المراكز والمقار الحزبية منها إلى الجامعات. ويزيد الأمر سوءاً كثرة الإضرابات والاعتصامات التي يمكن أن تعطل نشاط الجامعة أياماً وأسابيع، وعادة ما تتحكم الاتحادات الطالبية في هذه الإضرابات، ما يفتح المجال للأحزاب السياسية للتدخل في شؤون الجامعات بشكل غير مباشر، لارتباط الاتحادات الطالبية بها. كذلك فإن النظام التعليمي في اليونان مغلق ومحافظ بشكل كبير، بحيث لا يقبل التغيير بشكل سهل، وتسيطر عليه الأفكار التقليدية الجاهزة، بخاصة في ما يتعلق بالشرق والعرب، ومن الملاحظ خلو الجامعات اليونانية حتى الساعة من أقسام للدراسات العربية فيما توجد أقسام للدراسات اليونانية في أكثر من دولة عربية. ومع استفحال الأزمة الاقتصادية في البلد، نال الجامعات نصيب من حصة التقشف الحكومية. وهي كانت تعاني أصلاً من أزمة مالية، إذ أغلق بعض فروع الكليات العلمية والتقنية خارج أثينا، وأدمج بعضها الآخر في كليات أخرى لحصر النفقات، إضافة إلى أن بعض الفروع كانت تشهد إقبالاً ضعيفاً للغاية من الطلاب، وثبت أن دراساتها لا تتناسب مع حاجات سوق العمل المحلي. لكن أزمة النظام التعليمي العالي في اليونان تمتد إلى ما قبل الأزمة بكثير، فخريجو الجامعات وحاملو درجات الماجستير والدكتوراه، يعانون منذ فترات طويلة من انسداد الأفق أمامهم، إذ لا لأمل لهم بأي وظيفة جامعية أو وظيفة في مجال اختصاصهم الأكاديمي، ما يضطرهم للسفر أو الاتجاه إلى وظائف لا علاقة لها بدراساتهم وبأجور لا تكفي حاجاتهم الأساسية. ونتج من ضعف البنى التحتية للنظام التعليمي وسيطرة الأفكار الجامدة عليه، أن الأبحاث العلمية الجادة والجريئة، لا تجد لها مكاناً في الجامعات اليونانية، كما أن معاهد الأبحاث المستقلة أو التابعة لتلك الجامعات ليست أفضل حالاً. طبعاً لا بد من التوضيح أن الكثير من الأضرار التي لحقت بمباني الجامعات خلال السنوات الماضية، جرت بأيدي الطلاب أنفسهم، إذ كان بعضهم يستغلون المناسبات الوطنية للاعتصام داخل مباني الجامعات، ويتسببون بأضرار كبيرة للمبنى والأثاث والتجهيزات. ويقول سافاس روبوليس الأكاديمي في جامعة الاقتصاد والعلوم السياسية اليونانية (بانديون) في دراسة له صدرت أخيراً، إن «اليونان، على ما يبدو، تطرد أبناءها، إذ إن آلاف الشباب من أصحاب الاختصاصات التقنية المهمة الذين يعملون اليوم في الخارج، لا يجدون لهم مكاناً في النظام الاقتصادي اليوناني ذي المستوى المتأخر، وكلما كانت مؤهلات الشباب أعلى، زادت فرص توظيفهم في دول أجنبية أكثر منها في اليونان». وتضيف الدراسة أن «أكثر المجالات جذباً للشباب اليوناني العامل في الخارج هي مجالات الحقوق والإدارة والاقتصاد، ثم التسويق والسياحة، أما عوامل الجذب في تلك الوظائف، فهي المحفزات الأعلى (88 في المئة)، والظروف الأفضل للعمل (72 في المئة)، وآفاق التطور الوظيفي (67.5 في المئة). ماذا تقدم تركيا؟ تركيا ليست بالطبع الاختيار الأول للشباب اليوناني، لكنها واحد من الاختيارات المطروحة، وهذا الأمر يعود إلى عوامل عديدة، يبدو أنها ستعمل على جذب المزيد منهم خلال السنوات المقبلة. فالجامعات ومراكز الأبحاث التركية طورت ورفعت خلال السنوات الأخيرة مستواها الأكاديمي بشكل ملحوظ، ويذكر نيكولاوس خريسولوراس، مراسل صحيفة « كاثيميريني» اليونانية في إسطنبول في مقال نشر بتاريخ 9-1-2011، أن «الجامعات التركية تحتل مكانة أعلى من الجامعات اليونانية في أكثر لوائح التقييم العالمية. ويشير إلى إن «أحدث لائحة تقييم للجامعات نشرتها جريدة «تايمز»، لم تذكر أي جامعة يونانية ضمن أول مئتي جامعة في العالم، فيما تضمنت جامعتين تركيتين». ويتابع المراسل اليوناني: «هناك قدر أكبر من الاحترام للنظام التعليمي وجو الدراسة في تركيا، والطلاب أكثر انضباطاً ودقة في دراساتهم، كما أن المكتبات الجامعية التركية أكثر غنى وهي تتوسع باستمرار وترحب بمقترحات الأكاديميين لتطويرها وتوسيعها، فيما لا يلزم المدرسون طلابهم بمقرر دراسي واحد كما هي الحال في اليونان، إضافة إلى محفزات أخرى للباحثين والأكاديميين مثل تغطية نفقات السفر إلى المؤتمرات العلمية البعيدة». كما أن النظرة إلى الجامعات الخاصة في تركيا أكثر اعتدالاً، إذ توجد أكثر من جامعة خاصة تدرس باللغة الإنكليزية واللغات المعروفة عالمياً، فيما تسببت خطة الحكومة اليونانية لفتح جامعات خاصة، بتظاهرات واحتجاجات واسعة، أجلت الفكرة إلى أجل غير مسمى. ويوضح صاحب المقال أن في تركيا اليوم 160 جامعة مختلفة الاختصاصات، فيما هناك طلبات ترخيص لأربعين جامعة جديدة، ضارباً مثالاً بمشروع تعاوني يوناني تركي ناجح في إسطنبول، وهو مركز الدراسات اليونانية التركية في جامعة بيلغي الذي يمنح درجة الماجيستير في العلاقات الدولية في اختصاص الدراسات اليونانية - التركية، وتبلغ نسبة الطلاب اليونانيين فيه 40 في المئة مقابل النسبة ذاتها للطلاب الأتراك، فيما يتوزع الباقون على دول أخرى. لكن الصحافي اليوناني يجد نقطة مضيئة وسط هذا الجو الكئيب من المقارنة بين بلده وجارته، إذ يعتبر أن هؤلاء الطلاب والباحثين يحسنون صورة اليونان في الخارج بمعارفهم وقدراتهم العلمية، ويخففون من غلواء الصورة السلبية التي تركتها الأزمة الاقتصادية على اليونان.