كتب الموسيقي اليوناني المعروف ميكيس ثيوذوراكيس قبل أسابيع خطاباً قال فيه إنه عندما ذهب إلى تركيا في الثمانينات من القرن الماضي وألف مع بعض الأتراك واليونانيين جمعية للصداقة اليونانية - التركية، وصفه البعض عند عودته إلى أثينا بالخائن لبلده والعميل لتركيا. طبعاً لا يتصور المرء أن أعضاء الجمعية من الأتراك كانوا أفضل حالاً مع القوميين في بلدهم. هذا الاتهام والتجريح لشخصية مثل ثيوذوراكيس، يكاد اليونانيون يجمعون على شعبيتها، توضح مدى صعوبة مقاومة المد القومي المنتشر في البلدين، والذي دفعهما أكثر من مرة للمواجهة خلال القرن الماضي، ولا يبدو أنه تراجع خلال الفترة الأخيرة. وإذا أضفنا تعقيدات القضية القبرصية وعمليات الطرد المتبادل للسكان بين البلدين، وتعقيدات بحر إيجه والأقليات وهمومها، والنزاع على ملكية الأوقاف بين البلدين، وأطماع البلدين في التمدد في البلقان، اكتملت صورة التعقيدات التي تجعل من العسير للغاية اتفاق أي مجموعة من مواطني البلد على أي أهداف مشتركة. هذه المقدمة لا بد منها لمعرفة أهمية اللقاءات التي يقوم بها خلال السنوات الخمس الماضية شبان من البلدين لمناقشة قضايا إنسانية وحقوقية مثل أوضاع طالبي اللجوء السياسي في البلدين، وأحوال الحدود والعبور من تركيا إلى اليونان، ومعاملة رجال الأمن في البلدين لطالبي اللجوء، إضافة إلى أوضاع الأقليات في البلدين. معظم القائمين على هذه اللقاءات شباب حقوقيون وناشطون في مجال حقوق الإنسان واللاجئين وصحافيون وباحثون ومتطوعون، ينتمي معظمهم أيديولوجياً إلى اليسار أو إلى المؤمنين بحقوق الإنسان في شكل مطلق، فيما تشكل النساء في هذه المجموعات أكثر من 60 في المئة. في أثينا، تجري اجتماعات هذه المجموعات معظم الأحيان في مبنى مصلحة «محامي المواطن» وهي هيئة حكومية مستقلة، وظيفتها مراقبة عمل الحكومة لجهة تطبيق حقوق الإنسان، وتتصف المؤتمرات بالبساطة والتواضع، ويتابعها جمهور غير حاشد، ما يدل على أنها لم تأخذ بعد حظها من الدعم والدعاية في المجتمع اليوناني. ويبدو معظم الناشطين جريئين للغاية في انتقاد سجل بلادهم في مجال حقوق الإنسان ومعاملة اللاجئين، إذ يزورون مراكز احتجاز اللاجئين ويطلبون الحديث معهم، على رغم عدم استجابة رجال الأمن في معظم الأحيان، ومع وصول الأمر إلى إساءة معاملة الناشطين أنفسهم، ثم يعقدون لقاءات صحافية يدلون فيها بشهاداتهم أمام الصحافة، أو يخرجونها في تقارير حقوقية، حتى غدوا مصدراً مهماً للمعلومات حول هذه المسائل. أعمال الناشطين لا تتوقف عند هذا الحد، فجمعيات المجتمع المدني التي تهتم باللاجئين في اليونان مثلاً، حلّت خلال الفترة الماضية مكان الدولة اليونانية المفترض بها القيام برعاية طالبي اللجوء وإيوائهم، وهذا ما أكدته جهات حقوقية أوروبية زارت اليونان أخيراً. وهكذا صارت الجمعيات الحقوقية والإنسانية التي يديرها شبان متطوعون تفتتح مدارس لتعليم اللغة اليونانية والثقافة المحلية، كما شكل حقوقيون شباب مجموعات استشارية للمهاجرين واللاجئين لمنع استغلال مجموعات من المحامين لصعوبة أوضاعهم عبر عمليات مكلفة لا تؤدي معظم الأحيان إلى أي نتيجة، إضافة إلى جمعيات أخرى تهتم بتجميع الملابس والمواد الغذائية وتوزيعها على المحتاجين. بعض الجمعيات طورت عملها لتقوم بمعالجة اللاجئين في عيادات خاصة متطورة، كما توفر بعض الشقق للأسر الطالبة للجوء لفترة زمنية معينة، وتحاول تشغيل بعض اللاجئين لديها بخاصة في مجال الترجمة والتعامل مع أبناء بلدهم. هذه النشاطات كان لها بعض العوامل الاعتبارية المساعدة خلال السنوات الأخيرة، مثل تبادل الزيارات بين البلدين، حيث يزور آلاف اليونانيين إسطنبول ومناطق أخرى كل عام، يزورون خلال البطريركية المسكونية والأماكن الدينية اليونانية في البلد، وبحسب شهادة أحد أعضاء الجالية اليونانية في إسطنبول، فضل أكثر من 500 يوناني خلال السنوات الماضية البقاء في إسطنبول والعيش فيها في شكل دائم. وخلال الفترة الأخيرة، خصوصاً مع حكومة الاشتراكيين التي تصرح ليل نهار بحماية حقوق الإنسان، حتى إنها غيرت اسم وزارة الأمن العام إلى وزارة حماية المواطن وأنشأت أيضاً مصلحة خاصة بطالبي اللجوء السياسي، أصبح لهذه الجمعيات والمجموعات صوت أقوى نوعاً ما، خصوصاً مع وصول بعض المهتمين بحقوق الإنسان إلى مراكز مرموقة في الوزارات المعنية بشؤون المهاجرين واللاجئين. طبعاً وجود حكومتي باباندريو وأردوغان على رأس الهرم السياسي في البلدين كان من العوامل التي شجعت هذه الظاهرة الإيجابية، إذ كانت للرجلين مبادرات تقارب وتفاهم بين البلدين منذ أكثر من عشر سنوات، وإن لم يكن لهذا الأمر تأثير مباشر على نشاطات الشبان. آخر المؤتمرات التي عقدها الناشطون كان عن الأوقاف في البلدين، وأصدروا تقريراً من 30 صفحة عن أحوال الأوقاف اليونانية في إسطنبول والتركية في اليونان، وكان ثمرة تعاون بين مؤسستين بحثيتين تركية ويونانية. كما كان اجتماع عقدته جمعيات حقوقية يونانية تركية خلال الأسبوع المنصرم أوضح الكثير من أوجه الشبه في المعاناة التي يمر بها طالبو اللجوء المتوجهون إلى أوروبا عند القبض عليهم في تركيا أو اليونان. جمعيات الشباب الحقوقية والإنسانية أكملت وأوضحت المشهد الحقوقي على ضفتي بحر إيجه، بعد سنوات من الغموض والإبهام بالنسبة للمهتمين بهذه الموضوعات، ولعل هذا أكبر حسناتها ودواعي استمرارها.