فجأة ظهرت عند المنحنى، لم أعرف من أي باب خرجت بخاصة أنه لا توجد مداخل مؤدية، كلها مطلة على الممر الذي يبدأ عند الركن الذي استدارت متمهلة إليه، ثلاثة، رجل نحيل، يرتدي حلة كاملة رغم ارتفاع حرارة الجو، إمرأة عجوز قصيرة، في خطوها اضطراب، تحدف إلى الأمام، تتوسطهما، فارهة، راسخة، نحتها متقن، مثالي، يثب متجاوزاً كل العوائق. يمتد الممر إلى الرصيفين، تماثل متوازن. عقود متوالية، يجمع في توافق مرن غير متعمد بين العمارتين العربية والأوروبية، رغم المتغيرات التي نالت من ملامح المباني العتيقة وسط المدينة، الديكورات الحديثة المقحمة، البنوك الفجة المستحدثة، ما زال يحافظ على حضوره ومصدر الضوء الخفي الذي يضفي على فراغه الداخلي تلك النورانية. رطوبة خريفية تزيد إرهاقي، قلة ساعات النوم، اضطراري إلى المشي، لن تقبل أي عربة أجرة بسبب الزحام وقصر المسافة، عبرت الشوارع الجانبية المؤدية إلى سليمان باشا. لم تعد المكتبة التي افتتحت حديثاً بعيدة، فقط عبور الممر. لم يكن ثمة شيء يثير البصر، أو يمكن التوقف عنده، الواجهات المتناقضة، منذ سنوات تضطرب، بتجسد الابتذال، تتوارى الأناقة، كان مشيي في نهاية الخمسينات وحتى بداية السبعينات متمهلاً حتى أتملى وأستزيد، الآن أغالب الوهن بمحاولة قطع المسافة. التباطؤ الذي أرصده في الشهور الأخيرة، خطى الكهولة التي ظننت تأخر حلولها، لا ينقص إلا العصا، من النادر أن تلفت نظري ملامح وجه أو حضور أنثوي، إما جرى تغير في الواقع، أو داخلي، لكن، ياه لم أعرف هذا التحفيز منذ زمن لا أقدر على تحديده، يبثه قوام، ليس لسموقه، ثمة شيء، ثمة شيء، ليس تأودها المتمهل غير الملحوظ، خطوها الذي يجعلها تتقدم في استدارات متوازية، غير مكتملة، مثل أي مفاجأة، أي كشف مفاجئ. ألم به في كليته، ثم أحاول تلمس الفرصة لأستوعب وأستقطر عذوبة وضراوة ما طالعني، كنت واثقاً أنها تخطو في الممر، إلا إذا كانت تقصد أحد المداخل، خطر لي أن أتبعها، هناك أطباء، توكيلات، محامون، يمكنني ذكر أي اسم لو اعترضني أحد، لم أعد أرى إلا هذا الحضور المباغت والذي أدى بي إلى طفرة ظننت اندثارها. عندما وصلت إلى المنحنى، كانت تتهودج متأنية، رغم بطئها تحاول العجوز اللحاق بها، أما النحيل الموازي لها فلا يتطلع إليها، مدثرة بلون واحد، أسود، أيضاً العجوز، أوقن أنه حداد وليس إحاطة، لم يكن بيني وبينها مار أو عابر أو متطفل، فراغ تمنيت دوامه. اجتهدت في ضبط خطاي على خطاها، حتى لا أدنو كثيراً ولا أتجاوز مضطراً، مسافة تحافظ على تحديقي النهم غير المستوعب لميادة الفرع وانحسار الخصر، وبزوغ الردفين مثل شروق مباغت. استدارتان مركزتان، مقبيتان، نافرتان، محكمتان، ينحدر البنطلون بفرعيه على عمودين يمكنني التنبؤ بهما رغم قتامة الثوب. تتقدم مستعرضة الفراغ، والثقة الداخلية. كنت واثقاً من توازن صدرها واتفاقه مع مؤخرتها المتموجة، المحرضة، لم يسر عندي شيء، ولم أكمل ما أراه بصور مستدعاة، متخيلة، إنما كنت مبهوراً بالتوافق، بالنسب، الشعر الطويل المنبسط على عنق أشم وكتفين منهما انحناءة مؤدية إلى ذراعين ربما يتلامسان أمام الصدر أو يمسكان بحقيبة، رغم هجومية الردفين إلا أنهما مع ما يتصل بهما نسق هادئ، واثق، يساند بعضه بعضاً، يندر مثل هذا، ليس في مصر فقط، إنما في الوجود، لا تخطو، إنما تسري، منها إليّ، الهواء المتدفق إلى صدري أكثر. يبدو أنني لم أقدر على استيعابه، أتمهل، تراجعت عن محاولتي الإسراع، لم أعد فضولياً باتجاه الوجه، ما أراه من تكوين متناغم، معجز، أخذني وحجب عني ما عداه. الممر خال أكثر، فراغه يتمدد، حتى النحيل المصاحب لم أعد أراه، كذلك العجوز المجتهدة للحاق بها. هي لا غير، لا ألمح إلا إطاراتها، تغيب عني تفاصيلها، تضاريسها، ملامحها، لن استعيدها إلا مولية بفراهتها، وثوقها، هيمنتها على ما عداها، سموقها المتجاوز، تتمدد المسافة بيني وبينها، أضطر إلى التمهل، التباطؤ، أميل مستنداً إلى أحد الأعمدة، لو قدر لي استعادتها، سأراها هناك قرب المنحنى المقابل، تتهادى.