عدوى ثورات «الشباب» التي إستخدمت فيها الشبكة العنكبوتية وشبكات التواصل الإجتماعي في شكل نشط ، وصلت إلى روسيا، وحصلت على تطبيق غير تقليدي لها. فعلى واحدة من أبرز شبكات التواصل الروسية، ظهرت مئات الصفحات لشبان يشاركون في مناقشة قضايا تهمّهم، ويعبرون عن آرائهم في ما يدور حولهم، يسعون إلى نقل الحقيقة عمّا حلّ بهم إلى الآخرين، غير أنهم يختلفون عن بقية المشاركين في الشبكة، لأنهم ... موتى! هكذا وجدت أمهات الجنود الروس الذين لقوا حتفهم في معسكراتهم وفي زمن السلم بسبب الإهمال أو العنف من جانب زملائهم وقادتهم، طريقة مبتكرة للتذكير بمصيبتهم، وللفت الأنظار إلى ظاهرة مخيفة، إذ يكفي أن العقدين الماضيين سجلا سقوط نحو 80 ألف قتيل بين الجنود الذين ذهبوا لتلبية نداء الوطن ولم يعودوا إلى ذويهم أبداً. وبات الحديث يتمحور حول مَن ماتوا في «وقت السلم» كما يُطلق على الأمر، أكثر من الحديث عن أولئك الذين شاركوا في الدفاع عن وطنهم وسقطوا على الجبهات. ولتوضيح حجم الكارثة يكفي إبراز عدد ضحايا الجيش في «وقت السلم»، والذي يزيد بأكثر من ضعفين ونصف الضعف عن خسائر روسيا في حروبها المتواصلة في القوقاز مثلاً خلال السنوات العشرين الماضية. الحسرة في قلوب الأمهات الثكالى لا تنطفئ أبدا، تقول ناشطة من مؤسسة «حق الأم» التي إعتبرت أن المصيبة الكبرى تكمن في تجاهل هذه المشكلة من جانب السلطات المختصة، و»كانوا ليشاركون أقرانهم في الحياة ومناقشة القضايا التي تهم الشباب، لو أنهم لم يموتوا بهذه الطريقة العبثية»، لذلك إتُخذ القرار ب»إعادتهم إلى الحياة إفتراضياً» وفتح صفحة لكل منهم على الشبكة الإجتماعية «أدنو كلاسنيكي» الأكثر إنتشاراً في روسيا. و»أدنو كلاسنيكي» تعني بالترجمة الحرفية «أبناء الصف الواحد» وهي شبكة تأسست للبحث عن أصدقاء الدراسة لكنها ما لبثت أن تحولت إلى أهم شبكة تواصل إجتماعي في روسيا وبلدان الرابطة المستقلة وتضم عشرات الملايين من الأعضاء. عثروا عليَّ مشنوقاً ! على واحدة من الصفحات ينقل يفغيني كانوتكين من مدينة تامبوف قصته إلى متصفحي الشبكة، «يكتب» إنه كان يعشق الموسيقى ويحلم بأن يسجل مع أخته ذات الصوت الساحر، إسطوانة مدمجة. و»يضيف»: «كنت سأضع لها اللحن والكلمات لتؤدي الأغنية. وللأسف لم نتمكن من تحقيق هذاالإنجاز...» وفي قسم «حول الخدمة» يتضح لماذا لم يتمكن الجندي من تحقيق حلمه. حيث يُكتب: «بتاريخ 16 أيار (مايو) 2008 قُتلت في حقل الرمي. بعد ذلك روت عاملة في القطعة العسكرية أن الضباط أرسلوني لجمع المعادن المتبقية في الحقل بعد الرمي... وليلة موتي سهر الضباط في غرفة القيادة لفبركة وثائق تدل إلى أنني إرتكبت خطأ قاتلاً وسقطت بسببه... لم تؤدِ التحقيقات إلى أية نتيجة، وفي المحصلة لم يتحمل أحد المسؤولية عن مقتلي». صفحة كانوتكين واحدة من 300 صفحة ظهرت أخيراً على الشبكة، بمبادرة من مؤسسة «حق الأم» للدفاع عن حقوق الإنسان. وتشير الصفحات إلى أن الجنود القتلى سيبقون «في الخدمة» الى الأبد. أما صورهم التي ظهرت على الصفحات مع أشرطة سود فتترك إنطباعاً رهيباً لدى المتصفح بالتواجد في مقبرة عسكرية افتراضية. وتكاد الحوادث التي «ينقلها» الجنود على صفحاتهم تكون متشابهة في كثير من الأحيان، وهي تدل إلى مستوى مرير من الترهل والفساد واللامبالاة بحياة المجندين الشبان في الجيش. «عثروا عليَّ مشنوقاً عند موقع الحراسة»، كُتب على صفحة ألكسندر بوزدييف (23 عاماً)، من قرية مالي غوزيك في محافظة كيروف، بصيغة المتكلم ليبدو وكأنه مَن كتبها. أما صفحة دينيس جاريكوف (26 عاماً)، ابن منطقة كورابيلينسك في محافظة ريازان فقد جاء فيها: «أعجبني الجيش جداً. خلال سنة من الخدمة الإلزامية قفزت ثلاث مرّات بالمظلة، إلا أن كل شيء انتهى بتاريخ 25 تشرين الثاني (نوفمبر) 2005 عندما قام قائد وحدتنا، وهو تحت تأثير الكحول، بإطلاق النار عليَّ من رشاش كلاشينكوف في مكتبه وأمام زملاء الخدمة». وتروي صفحة ألكسندر ليستيف من منطقة ميتسينسك في محافظة أورلوف، كيف كان يتعرض لإبتزاز المال منه... و»كنت أضطر للاتصال بوالدتي لأطلب منها أن تشتري بطاقات رصيد للهاتف، أو لترسل المال... قُتلت يوم 15 حزيران (يونيو) 2009. قالوا لوالدتي ولزوجتي انني انتحرت، شنقت نفسي. لكنهما لم تصدقا هذا الكلام. هما على قناعة بأن موتي كان نتيجة عنف وبأنني قُتلت». في صفحة أخرى حصل دينيس جاريكوف الذي قتل داخل القطعة العسكرية على الرقم 38783». وتلقى أخيراً، تهنئة من إدارة الموقع في عيد ميلاده... بعد أن كبر إفتراضياً عاماً افتراضياً. تصف المحامية فيرونيكا مارتيشنكو رئيسة مؤسسة «حقوق الأم»، ما يحصل بالقول: «إنهم هناك، يواصلون حياتهم في الفضاء الافتراضي». وتضيف: «أكبر الجنود المضافين إلى الشبكة سناً، كان ليبلغ الآن 42 عاماً لو بقي على قيد الحياة». قبل أن تكمل بحسرة: «إنهم الآن أحياء في الشبكة على الأقل، هذا ما أستطعنا أن نقدمه إليهم، لأننا عاجزون عن إعادتهم إلى الحياة». ولقيت المبادرة قبولاً وتجاوباً من كثيرين، وخصوصاً الأصدقاء الذين عرفوا الجنود قبل موتهم. فظهرت رسائل وحوارات كثيرة. وكتبت صديقة ليفغيني على صفحته :»من المؤلم أن تدرك أنك لم تعد موجوداً...أتذكرك دوماً وأريد أن أبكي وأن أبكي...». وكتب آخر: «جينيا (إسم التحبب من يفغيني) أفتقدك كثيراً. الأمور سيئة جداً من دونك». وتقول رسالة ثالثة: « من الصعب النظر إلى صورتك...وعدم طرح السؤال المؤلم : «لماذا قتلت؟ ماذا فعلت كي ترحل بهذه الطريقة؟». الإحصائيات المضللة وتشير المحامية مارتشينكو إلى أن المبادرة لقيت قبولاً واسعاً عند ذوي معظم الضحايا إذ تقدم قرابة ال 4300 أسرة العام الماضي بطلب تقديم المساعدة القانونية. ويأمل كثيرون بأن تساعد هذه الطريقة في فتح ملفات التحقيق وتحديد الأسباب الحقيقية لموت المجندين، علماً بأن الأرقام الرسمية تشير إلى أن سبعة في المئة فقط من الجنود الذين ماتوا في معسكراتهم، كانت أسباب وفاتهم متعلقة بمخالفات من جانب الضباط أو زملاء لهم، بينما تصل نسبة الإنتحار إلى 28 في المئة، في مقابل 33 في المئة سقطوا في حوادث عرضية. إلاّ أن مارتشينكو تشكك بالمعطيات المعلنة، وتعتبر أن عمليات تزوير واسعة تتم بعد موت الجندي بهدف تجنيب الضباط تحمل المسؤولية، وعدم دفع التعويضات القانونية لذوي الفقيد وتؤكد قناعتها بجدوى عملية «إعادة الحياة» إلى الجنود – الضحايا، افتراضياً على صفحات التواصل الإجتماعي، وترى أنه سيكون لها تأثير كبير. وتختم: «على المسؤولين معرفة أن أبناءنا سوف يلاحقون مَن ظلمهم، ويستمرون في مناقشة القضايا التي تهم المجتمع، مع زملائهم الأحياء».