"قليل من الاحتراف وبعض التدخل الاجنبي لا يفقدان الانتفاضة عذريتها"، يقول صديقي الليبي المقيم في الغربة لاسباب معيشية ويتحين فرصة العودة الى وطن ينعم بالرخاء الاجتماعي ويتمتع اهله بثرواته الطبيعية. هو لا يفهم التلكؤ في فرض حظر جوي، ما يعادل "ضوءا اخضر" لإخماد الانتفاضة، ولا يفهم ايضاً لماذا لم يسارع الجيران قبل الغرباء الى دعم الشعب الليبي مادياً ومعنوياً. يتساءل: "الم يكتووا بما فيه الكفاية من ممارسات العقيد الذي لم يترك ساحة الا وعبث فيها؟". يستغرب مواقف بضعة عواصم اقليمية لا تزال تبحث عن مخرج للقذافي من ورطته، يعرب عن خيبته من أنقرة التي راهن عليها باعتبارها "عائدة بقوة الى الساحة السياسية في العالم العربي"، واذا بأردوغان يقصر دور تركيا على تقديم النصح والدعاء والابتهال، ثم المساواة بين الضحية والجلاد. عبثاً تحاول اقناع هذا الصديق بان المواقف الدولية لا تتحرك على ايقاع طموحاته، يسارع الى الاشارة الى الموقف الفرنسي المتقدم، يقول: "فرنسا ام الحريات فعلاً، لكن موقفها كان في حاجة الى دعم علني وفوري من جانب من يقول انه يقف معنا من اشقائنا العرب". ماذا عن الاتحاد الافريقي؟ يتساءل: "الم يتخذ الافارقة موقفاً موحداً من غباغبو لانه يرفض التخلي عن السلطة في ساحل العاج؟ نحن نعرف انهم عاجزون عن املاء موقف مماثل على القذافي، لكن فليدينوا على الاقل تدخل بعض الدول الافريقية بارسال مرتزقة وعتاد الى ليبيا". تضيق عليه الحجج، فيبادر الى انتقاد الاميركيين: "بوسعهم على الاقل التشويش على اجهزة اتصالات النظام، لمنعه من استخدام طائراته وسفنه في ضرب مدن آمنة". يتصاعد غضبه يهب واقفاً من كرسيه: "هم زرعوه هناك فليقتلعوه". ذكرتني تلك العبارة بما سمعته قبل سنوات من سياسي ليبي مخضرم رحل وحيداً في الغربة دون ان يتمكن من العودة الى بلاده، يومها قال لي جازماً: "القذافي صنيعة وكالة الامن القومي الاميركي هي التي اتت به الى الحكم لانهم (الاميركيون) يعتبرون امدادات النفط جزءاً من امنهم القومي. في ذروة الحصار على الشعب الليبي، لم يلوح القذافي للغرب بورقة النفط". كان الرجل يتحدث بعدما استفزته عملية التطبيع الغربي مع القذافي بعد قضية "لوكربي". يشير الى اكثر من "لوكربي"، فالقذافي سخر اموال الليبيين لخدمة اجندات خفية من جنوب الفيليبين الى شمال ارلندا مروراً بالكونغو وناميبيا ودول افريقية عدة، ناهيك عن المحيط المباشر. في السنوات الاخيرة، لم يقدم الاميركيون تبريرات "مقنعة" لتطبيع علاقتهم مع النظام في طرابلس الغرب، سوى "تخليه عن اسلحة الدمار الشامل" ادعاءات تبين في الايام الاخيرة انها واهية، في ظل تحذيرات غربية من امكان استخدام النظام مخزونات من غاز الخردل وغيرها من مواد محرمة يمتلكها، لقمع انتفاضة الشعب الليبي. وفي الاشهر التي تلت تسليم طرابلس معدات نووية للغرب، قال مسؤول في الخارجية الاميركية في معرض دفاعه عن موقف بلاده من التطبيع، ان الجانب الاميركي ابلغ مبعوثين للنظام الليبي في مناسبات عدة، تصورات لتطوير الوضع في ليبيا، اهمها اغلاق الملف المتعلق بحقوق الانسان، ووضع خطط تنموية تشجع الاستثمارات في ليبيا على الامد البعيد. ومن هذه الخطط استحداث مناطق للتجارة الحرة والانفاق على تطوير البنى التحتية في مدن ليبية عدة. واضاف: "نريد ان نرى في ليبيا مدناً على طراز دبي، وهذا يوفر فرص استثمارات وعمل للاجانب والليبيين على حد سواء، كما نريد ان نرى شفافية واعلاماً حراً". بدا للوهلة الاولى، ان سيف الاسلام هو الذي سيقود خططاً طموحة من هذا النوع، ليتبين لاحقاً ان الامر مجرد فقاعة، فالقذافي غير راغب لا في الاستثمار في ليبيا ولا في تحديث مرافقها ولا في اطلاق حرية الاعلام والشفافية. بل شن بدلاً من ذلك، حملة علاقات عامة، بدد خلالها اموال الشعب في شراء ذمم شخصيات نافذة في الخارج، في مجالات السياسة والاقتصاد والاعلام. والمفارقة انه في كل مرة كان يدفع قرشاً كان يرسل من يسرب نبأ دفعه، حتى بات معظم المراقبين الليبيين يعرفون من قبض واين وكيف. وليس للشعب الليبي سوى ان يقدم "براءات ذمة" لهؤلاء، لكي يطمئنوا الى ان احداً لن يطالبهم بحقوقه المهدورة في شراء ولاءات بلا جدوى. هل أخطأ القذافي في خداعه للغرب؟ ها هو الآن يحاول "بيع البضاعة ذاتها" بعد اعادة تدويرها. هل بات امراً مفروغاً منه ان على المجتمع الدولي التعايش مع نظام عاجز عن التغيير؟ علماً ان ليبيا ليست دولة معزولة في مجاهل القارة الافريقية، بل تملك شواطىء شاسعة مطلة على البحر المتوسط ويشكل الاستقرار المفتعل فيها وهو رديف لعدم الاستقرار، مخاطر على الدول الاوروبية، اقلها ابتزاز هذه الدول بالتهديد بدفع آلاف من لاجئي القوارب الافارقة الى سواحلها سنوياً، وهو الامر الذي لم يتوان القذافي عن الاشارة اليه بصراحة. ما لم تحزم الدول المعنية بالازمة في ليبيا امرها سريعاً في حماية المدنيين فانها ستتهم حتماً بالتآمر على استقرار ليبيا والمنطقة، ما يقوض الثقة الناشئة بين الغرب وقوى التغيير في دول الجوار. ولا بد من الاخذ في الاعتبار ان استخدام القذافي للقوة المفرطة في استعادة مناطق خسرها امام شباب الانتفاضة، لن يؤدي سوى الى امتداد الاشتباكات وتحويل البلاد باسرها الى بؤر مواجهة مشتعلة بين هؤلاء الشباب وقوات النظام، كما ان اطالة عمر مشهد سفك الدماء في ليبيا ستكون له انعكاسات كارثية في المحيط الاقليمي بأسره. واذا اقتصرت لغة التهديد والوعيد على النظام الليبي، فان انعكاسات الاحباط الشعبي الواسع في المنطقة من جراء السماح بمجازر واسعة في ليبيا، ستكون حتماً اخطر بكثير من لي ذراع القذافي، لمرة واحدة وأخيرة.