الكتابة الأدبية غير كافية وحدها لخلق شعبية الكاتب في مجتمع تتضاءل فيه نسبة الثقافة العامة، فتجد المثقفين والمهتمين بالشأن العام في بحث عن كل ما يرفع مؤشر أسهمهم وشعبيتهم، وأي معين أفضل من الدين! فخذ عندك الأديب والسياسي محمد حسين هيكل وكتابه «حياة محمد» الذي خلق له مكانة دخل معها معظم البيوت العربية، وليست المصرية فحسب، هذا وهيكل أحد زعماء الأحرار الدستوريين، أي عضو في حزب أقلية ترفضه الجماهير، ولأن عباس العقاد وبعد نحو 30 سنة من الكتابة لم يكن قد اشتغل في قضايا الدين (حتى عام 1936)، ولأن جماهيره بدأت تنفضُّ من حوله بسبب مواقفه السياسية بعد انفصاله عن حزب الوفد بشعبيته العريضة، فكان أن اتجه إلى ما يحقق له عودة البريق، وليكن الضمان هو الدين بسلسلة «العبقريات»، بل إن الدين في الوطن العربي وفي رأي رجاء النقاش، لأقوى تأثيراً من السياسة في الجماهير، وهو النهج الذي سار عليه طه حسين في كتابه (على هامش السيرة)، وكذا توفيق الحكيم. يقول الناقد محمد مندور في أربعينيات القرن الماضي: «وإني لا أجهل أن امتداد الزمن بالحياة غالباً ما ينتهي بنا إلى الصلح معها، فالشيوخ عادة أكثر رضا وتفاؤلاً من الشبان الساخطين المتشائمين، كما أعلم أن طول التجارب كثيراً ما يبصّرنا بحدود للممكنات لم نكن نفطن لضيقها أيام حداثتنا، ولكنني رغم كل هذا أتساءل: ما بال معظم كتابنا قد انتهوا بالكتابة عن «محمد»..؟!»، ببساطة، لِما للدين من وهَج وقَبول لدى العامة ليس لغيره، وكما حصل مع الأدب في استثماره ورقة الدين، حصل مع السياسة أيضاً، وها هو البيان الأول باسم الداعية سلمان العودة وعدد من المشائخ يصب في الخانات السياسية، ما يفسر سعي قوى المعارضة والاحتجاج الاجتماعي والسياسي، للتعبئة حول شعاراتها، وصنع الأطر المعارضة وتأمين استمراريتها بدمج فكرها في النظام الفكري (الدين) الذي يخدم أغراضها، مضفية إليه ما تسخّره من المناخات الأخرى، وما تلتقطه من تناقضات الوسط السائد، لدرجة أننا أصبحنا معها نقرأ الأفكار الماركسية الأشد تطرفاً في العقائديات الإسلامية يستعيرها البعض لدعم ميوله الثورية، فمهمة القوى المحتجة تحريك الجمهور لمصلحة وعيها، لا ضبط معايير فكره وتفكيره، وليس أقوى من الإرث الديني محرّكاً ومحرّضاً. يتساءل أحمد شوقي في شعره فيقول: «... فهل ترى القوم بالحرية انتفعوا؟»، فالحرية كي تثمر لا بد لها من متسع وإمكانات، فلا تصاب بخيبة أمل إن حصلت على حريتك كما تصورتها، ولكنك لم تتزحزح عن تخلفك، فأي تقدم تنشد مع موارد شحت، بين أناس تصارعت؟ وهو ما أشار إليه الناقد مندور حين تكلم عن حكمة الشيوخ، الأمر الذي يدعو إلى الاستغراب، فمن قادوا حملة البيانات لم يكونوا كما «الورد اللي فتح في جناين مصر»، وإنما هم الأقرب إلى الشجر القديم العتيق، فأين تلاشت خبرة السنين في تحليل المشهد السعودي؟ حقاً، لقد أثبت الشعب السعودي أنه في معظمه عاقل وواقعي، وها هو يوم الجمعة والتاريخ الموعود للتظاهرات والاحتجاجات الشعبية يمر بهدوء ويضاعف من عزلة كل من راهن على الخطاب التعبوي، بل إن سلوك هذا الشعب الحضاري في امتصاص التوترات التي تمر بها منطقته العربية قد حشر المؤلبين وموقعي البيانات في أضيق ركن وجدوا فيه، فمن الجلي أن أصحاب النزَعات الثورية لم يحسنوا قراءة البلد، ولم يدرسوا طبيعة أهله وعلاقته بنظامه، وإلا ما كانوا أحرجوا حالهم وناسهم بمغامرات تطعن في خاصرة أي وطن. لم يحتَج الأمن إلى القمع واستعمال العنف، بل ظهر الشعب في أفضل صورة تعبر عن لُحْمته مع قيادته، حتى استحق دهشة المراقب الدولي، ولكن الموقف منذ بداية الأزمة قد كشف للدولة مزيداً من مساحة التآمر الخارجي الذي يحاك ضدها، وعينة من غضب داخلي وجد من يبعثه من رقاده، ولهذا الكشف اعتباراتٌ ينبغي عدم التغافل عنها، فكما أن الشعب استحق نوط الوفاء والولاء، على قيادته رعاية غرسة وفائه وولائه باستمرار ضخ المياه في عروق همومه وحقوقه، وريّ تربته بالقرارات «المهمة» التي يترقبها، فرَدُّ التحية بأفضل منها من شيم الكرام، وقد وصلت الرسالة للجميع: «وطني أقوى من الضغوط». [email protected]