ما زلت أذكر يوماً ما سعيداً وأقبض عليه في ذاكرتي حتى لا يسقط تقادماً، لم يكن فيه شيء أجمل من تأمل تفتح ملامحك الناعسة بترقب حذر، فاجأتني يومها بابتسامة أولى تجلّت فيها روعة البدايات، ظهر الفرح في ملامح الحياة حولك أينما حللت، وجذبت بسمتك الأرواح المترقبة والمتعطشة للفرح لتحصيل سعادة استيقاظك ونيل شرف صحبتك. كانت بسمتك المتحولة بمداعباتنا إلى موجات ضحك تضفي تعريفاً جديداً للوجود وتزيل عنوة جمود الأيام، بسمتك كالشهد الذي لا يمكن الارتواء منه، كم بدا وجودك العذب الهش ممتلئاً بالمتناقضات، مبشراً ومنذراً، ملوحاً بنشوة البراءة والعذوبة ومؤذناً بتوجس وخيفة، كنت أخشى عليك أن تدركي عوالم النساء وأن يطوى سريعاً عهد الطفولة المختلف على تعريفه وحدوده. أن تمتلئ عوالمك الصغيرة بالخوف والحذر، وأن توضع القيود على منافذ روحك وجسدك وعقلك، أن تفترضي دوماً سوء نية كل شخص حولك، أن تتوقعي الأسوأ وأن تحملي وحدك جريرة الإثم وتدفعي ضريبة التجاوز الذي يقترفه سواك، أن يقام حول عالمك الصغير أسوار لتخفيك وتحميك وتقصيك وتعزلك عن العالم كما هو بمساوئه وبمباهجه. كنت أخشى يوماً تختفي فيه ويحجب نور هذه الشمس المشرقة، هل تعلمين أنك تراءيت لوالدتك قبلاً حلماً جميلاً، أنك كنت كوكباً درياً يخطف بريقه الأبصار في حلم يسبق حقيقتك، كان ذلك في حياة أخرى قبل هذه الحياة وقبل أن يحل علينا الخوف. حبيبتي الطفلة العزيزة على أعتاب الأنوثة أنت محظوظة نوعاً عن السابقات، فلم يعد هناك وأد للبنات، لن يهيل أحد ما التراب فوق الأعواد الخضراء الطرية بعزم مجنون حتى يختفي وعد الحياة وبريقها، نجوت من حكم الإعدام ولكنك لا زلت تقضين حكماً مؤبداً بالسجن في انتظار إثبات البراءة. ربما لا نرى أبداً هذه الأشجار الباسقة الوارفة تكتمل وتغطي الأفق، هناك من يحيط هذه الأعواد الخضراء الطرية بالأسوار الحصينة ويمنع عنها الضوء والغذاء الذي تتوق إليه كثيراً، في عالمنا حبيبتي الصغيرة تحشد من أجلك أنت الجهود ويجتمع المختلفون تحت لواء قضيتك المزعومة، أنت أحياناً أداة الشيطان، وغالباً فتنة العابد، ونادراً سر الوجود وعذوبته، أنت الوجه المختلف على حجبه، والصوت المختلف على سماعه، والعقل المختلف على أهليته وعلمه، وصاحبة المال المختلف على ملكيته، والوجود المختلف على سبب وجوده. أنت ذريعة لجحافل المحتسبين ومتن فتاوى سد الذرائع في فقه المحتاطين، وأحجية في تخطيط المسؤولين، ومعضلة في بنية المجتمع، أنت مادة خصبة للنقاش، فكل شؤون حياتك سيقررها بالنيابة عنك أوصياء، سيختفي مع الوقت صوتك، وسيرتفع مع الوقت خوفك، كل طرقك تحدد ملامحها ضمائر الذكور حولك، ستسيرين قسراً في متاهات الولي والزواج والطلاق والميراث والنسب والتعليم والعمل والتنقل ومحاولة بناء حياة ما، على رغم معالم الطريق الغامضة، على رغم السدود، متاهاتك بلا علامات طريق، قد تضيعين بين سردايبها للأبد. أنت وأنا ماكثون... أنت تعليقاً يظهر في مدونتي لحقوق المرأة ويتساءل بخوف إن كان من حقك النجاة من تعنيف زوجك وأنت حامل ومن تفويضه لنفسه أن يكون حامي الحمى على بوابة الحياة، تتساءلين إلى من تذهبي؟ وهل يمكن أن ينصفك أحد؟ وهل يضعونك في سجن جديد ومع سجان أكثر رحمة؟ ماذا يحل بقطع منك تتعلق بشرايينك طلباً للحياة؟ أعرض أمامك أرقام هواتف وفاكسات لموظفين قد لا يجيبوا أبداً وإن استجابوا قد لا يملكوا لك شيئاً، أنت قضية لا زلت في انتظار إثبات ما بأن لك حق الوجود وحرية ممارسة الحياة بلا تمييز، ماذا صنعنا لك وماذا قدمنا؟ أنشأنا كعادتنا لجاناً ووفوداً تأتي وتروح، تقابل وفوداً أخرى وتناقش أرقاماً وتشكّك في أهميتها وتؤلف أوراقاً وتنتج تقارير، بينما تبقين أنت سؤالاً يلوح في خوف خلف الأبواب الموصدة، تظلين فرعاً أخضر غير مكتمل يهدده انقطاع شريان الحياة... «ماذا أفعل وهل ينقذني أحد؟»... لا أدري حبيبتي أي الطرق أقل إيلاماً على عودك وروحك، ولكني أتمنى في يأس واقعي مبرر ألا تكوني رقماً جديداً في إحصاء ما أليم للجرحى والمعوقين والوفيات وألا تنطوي السنون ونحن ماكثون... نتقدم خطوة ونتعثر خطوات ونفرّ تخبطاً وهمساً وفزعاً من عفاريت الظلام بلا خريطة طريق. أنت ساكنة في خيال محب يبحث عن فارسة تباريه وحضن يحتويه، أنت شجرة وارفة في قلوب أطفالك، أنت ظل يؤويهم وخضرة تجمّلهم وثمرات تقوى بها أعوادهم الطرية، أنت أمل لوطن في غد منتج يتجاوز خصوصية وجودك، أنت نفسي الأنثى التي أحتار دوماً في لغز وجودها المثير للخوف والشك والهم المتعلّق بعالمها حتى الممات. أنت ذاتي التي أزيل من حول حقيقتها الحجب وقيود النوع والمجتمع والثقافة البالية حتى أصل إليها، أنت ماضٍ مظلم حملناه معنا لقرون حتى انكسرت ظهورنا، أنت حاضر تتعثر فيه خطواتنا، أنت غد تعلّقت على أبوابه أحلامنا، أنت وعد ينتظر الوفاء، أنت نصف الكون ومنبع الحياة وحامية الوجود... إليك أنت التي تنتظر اكتمال العود أهدي آمالي في يوم المرأة، يا صاحبة السعادة ومانحة الحياة، بسمتك انفراج وضحكتك فرح، ووجودك الآمن السعيد كوكب دري ينتظره العالم ليبدأ الحياة، أنت نور على نور. * كاتبة سعودية. [email protected]