اتفق العقيد القذافي والرئيس ساركوزي على مقولة واحدة وإن اختلفت الأسباب: أن المتغيرات في المنطقة العربية تحمل أخطاراً تتمثل بإمكان ازدياد سطوة الأصوليات، وإمكان حصول الفوضى التي تشكل أخطاراً على بلدان التغيير، وعلى أوروبا التي سيلجأ إليها الناس من البلدان المضطربة، والأخرى الأفريقية من ورائها. وكلام القذافي مفهوم في السياق الذي يمر به نظامه بليبيا الثائرة عليه. وقد كرر ذلك منذ بداية الأحداث هناك ثلاث مرات على الأقل، وفي المرة الأخيرة بلغت به الجرأة بعد اعتبار نظامه «صمام الأمان» لأوروبا من «القاعدة» ومن موجات الهجرة، أنْ أنذر الغرب أنه في حال سقوط النظام، فقد يشكل ذلك خطراً على أمن إسرائيل ايضاً وليس على بلدان غرب المتوسط فقط. ومقولة العقيد هذه سبق لسائر أقطاب الجمهوريات العسكرية والأمنية العربية أن كرروها خلال العقدين الماضيين، وحدث ذلك دائماً في مواجهة مطالبة الغربيين لهم بإحداث تغييرات في أنظمتهم المقفلة باتجاه المشاركة والانفتاح على القوى الجديدة في مجتمعاتهم. والأمر مع الرئيس ساركوزي غير ذلك تماماً. فصحيح انه يخشى الفوضى وازدياد الهجرة الى أوروبا (الذين يخشون أكثرهم الإيطاليون، كما تدل عليه وقائع العقد الماضي)، لكنه لا يخشى الأصوليات لا من هذه الجهة ولا من غيرها. والنقاشُ الثائر في فرنسا الآن لا علاقة له بالثورة على القذافي، ولا حتى بالثورة في تونس على نظام الرئيس بن علي (والذي يقال انه كانت لوزيرة الخارجية الفرنسية السابقة علاقات به)، بل أصله استطلاع على الأكثر حظاً في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة، جاءت فيه ماري لوبان زعيمة الجبهة الوطنية اليمينية في المقدمة! والرئيس ساركوزي هو الذي جلب هذا الأمر على نفسه، عندما بنى شعبيته منذ أكثر من عشر سنوات على موضوع الهجرة المغاربية والإسلامية الى فرنسا، وأصرّ دائماً على أن تلك الهجرة إنما تشكل تهديداً للهوية الوطنية الفرنسية. وفي حكومته اليوم وزير للهوية الوطنية، نعم للهوية الوطنية، في فرنسا الثورة الفرنسية للحرية والمساواة وفصل الدين عن الدولة، وليس اضطهاد المتدينين ونُكران حقوقهم الدينية والمدنية. وقد صدرت في عهده حتى الآن أربعةُ قوانين ضد المسلمين الفرنسيين تتعلق بالنقاب، ودخول المهاجرين الى البلاد، والجنسية، والتعامل مع المسلمين في حالة ممارسة بعضهم للعنف ضد السلطات. ومن ضمن هذه السياسات (التي ما انفرد بها على أي حال في أوروبا!) إقباله على توثيق العلاقات الفرنسية الأمنية بالأنظمة العربية بشرق المتوسط لمكافحة «الإرهاب» والهجرة، وتبادل المصالح، ومن ضمنها التوسط بين بعض تلك الأنظمة وإسرائيل. وفي لحظات الصفاء في الجلسات الخاصة كان الرئيس الفرنسي يطمئن مُحاوريه الى انه لا يملكُ شيئاً ضد الإسلام أو المسلمين، بل إنما يريد سحب الرياح من أشرعة لوبان واليمين الفرنسي العنصري بأخذ موضوعهم المفضّل الذي يكسبون من ورائه الشعبية من ايديهم! وهذا الأمر في نظر الباحثين الفرنسيين غير صحيح، لأنه إذا كان موضوع الهجرة الإسلامية هو المفضل لدى الجمهور الفرنسي، ويحمل رايته منذ عقودٍ اليمين الفرنسي المتطرف، فلماذا يترك الناخبون الفرنسيون الطرف الأصيل حامل تلك القضية الخطيرة، ويلجأون الى يمين الوسط (الذي ما عاد ديغولياً منذ مدة) ليعطوه أصواتهم. الكاتبون الفرنسيون يرون ان الرئيس ما نجح في شيء مما قامت عليه حملتُه الانتخابية عام 2007، وهذا هو سببُ انخفاض شعبيته. ويذهب بعضُهم أكثر للقول إن مسألة الهجرة ومشكلاتها ما عادت شعبية يكسبُ من ورائها المتنافسون، فحتى لدى ماري لوبان (بخلاف ما كان عليه الأمر لدى والدها) ليست هذه النقطة رئيسية في برنامجها الانتخابي على المستويات النيابية والبلدية... والرئاسية. ولا يرى هؤلاء أن للوبان حظوظاً معتبرة في الرئاسة، بيد ان ساركوزي ليس أحسن حظاً منها، ومصدر قوته الباقي مستعار ويتمثّل في ضعف الحزب الاشتراكي وقياداته، وهكذا يكون على الديغوليين إذا أرادوا الاحتفاظ بالرئاسة في الانتخابات المقبلة اختيار رجل آخر غير ساركوزي مرشحاً للمنافسة إن أمكن لهم القيام بذلك. لقد أطلتُ في الحديث عن فرنسا ورئيسها في قضايا الفوضى والإرهاب والتشدد والموقف من المتغيرات العربية الجارية، لأنه فاقع جداً، إنما الحقيقة أنه في الشهور الأخيرة، وخلال الأسابيع الماضية، عبّر مسؤولون أوروبيون كبار عن مواقف مشابهة، فهكذا قال كامرون رئيس الوزراء البريطاني في معرض الحديث عن «فشل التعددية» في دمج المسلمين ببريطانيا، وهكذا قالت المستشارة الألمانية ميركل في معرض الحديث عن الأمر نفسه. وأنا أكتفي بهذه الاستشهادات كي لا أذكُر سياسيين ومثقفين على مستويات مختلفة في إسبانيا وهولندا وإيطاليا ومالطا وإسرائيل. وبالطبع، وكما اتضح من مَثَل ساركوزي، فإن الأسباب الرئيسة لتلك التصريحات أوروبية داخلية، وتتعلق بالصراع السياسي على السلطة وأصوات الناخبين، وسط صعود تيارات الخصوصية واليمين في البلدان الأوروبية الرئيسة. إنما وفي ظل المتغيرات العربية، عاد الساسة لربط ذلك كله بما يحدث الآن، واحتمالات تطور الموقف وتأثيراته على بلدانهم في الأمد القريب. وبصرف النظر عن المصالح الواقعة في أصول هذه التصريحات، واستناد العسكريين العرب القُدامى إليها في تحذير الأوروبيين من التغيير باتجاه الأصولية، يكونُ من الملائم بالفعل ان نفكّر نحن ايضاً في التساؤلات المطروحة، في ضوء الخبرة المتقادمة بالتجربة السابقة، وما يمكن ان تفيد فيه التطورات الحاصلة في الشهرين الأخيرين. لقد تميزت المقارباتُ ذات الطابع الإسلامي في الشأن العام ببلاد العرب والمسلمين في العقد الأخير، بثلاثة مظاهر: الاندفاع الجهادي ضد النظام العالمي عبر مهاجمة أهداف بالولايات المتحدة وأوروبا، ومواجهة الانتظام العام في البلدان العربية والإسلامية بشكل عنيف ايضاً، وهو الأمر الذي حوّل الإسلام الى مشكلة عالمية، وكانت له عواقب فاجعة عسكرية وأمنية وسياسية، ما تزال تداعياتها تتوالى حتى اليوم. والمظهر الآخر: إحداث انقسامات بالداخل العربي والإسلامي باسم الدين، وسواءٌ اتخذ ذلك مظهراً عنيفاً أو لا، ورفع مطالب تتخذ احياناً طابعاً عاماً أو مبدئياً، لكنها تتسم في أحيان أخرى بالخصوصية والميل للانفصام والانقسام. أما المظهر الثالث للظاهرة الإسلامية، فهو ظهور تيار «الإسلام السياسي» الذي يواجهُ الأنظمة القائمة وبخاصة في الجمهوريات العسكرية والأمنية، وبطرائق غير عنيفة، بحيث صار هذا الإسلام هو تيار المعارضة الرئيسية لتلك الأنظمة، وسط الفراغ شبه الكامل على جبهة الأحزاب السياسية، وقوى المجتمع المَدني الأخرى. ونحن نعلمُ ان التغيير الذي انطلق من تونس ومصر، وهو ينتشر الآن وبدرجات وأشكال متفاوتة في سائر الأنحاء، ما قام به الإسلاميون بظواهرهم أو مظاهرهم الثلاثة، بل قامت به جماهير شابة وغير حزبية تعتبر نفسها من قوى المجتمع المدني. وما تلاءم معه أو انضم إليه في ما بعد غير جماعات الإسلام السياسي، في حين ترددت وتتردد بشأنه جماعاتُ الخصوصية والفصام، وترفضه الجماعات الجهادية العنيفة. وبالفعل، في الأسابيع الأولى للتحرك، تصاعدت المخاوفُ لدى الأوروبيين على الخصوص من إمكان سيطرة تيارات الإسلام السياسي على المشهد، باعتبارها الأفضل تنظيماً والأبقى فعالية. بيد ان هذه المخاوفَ ما وجدت صدقية في ما بعد لسببين: أن الجماعات المدنية ظلت هي البارزة، وأن الإسلاميين المسيَّسين أظهروا مرونة غير متوقعة، سواء على مستوى الالتزام بالبرنامج العام للثائرين المدنيين، أو على مستوى الحرص على مؤسسات الدولة، وأخيراً الحرص على الوحدة الوطنية الداخلية. ومع ان القلق الأوروبي لم يخمُد، فإن الحالة الليبية شكّلت في الأسبوعين الأخيرين التحدي الأبرز للأوروبيين وللعرب على حد سواء. ولا يرجع ذلك الى أن العقيد القذافي جدد مخاوفهم من الفوضى والهجرة من جهة، و«القاعدة» من جهة أخرى، بل ولأن نظام العقيد القذافي استطاع الاستمرار والمقاومة حتى الآن، ولأن خصومه حملوا السلاح ايضاً دونما أطروحات واضحة غير إسقاط النظام، وأخيراً لأن ليبيا هي الى جانب تونس الأقرب لأوروبا من بين بلدان التغيير، وقد كانت بينهم وبين نظامها علاقات وثيقة في السنوات الأخيرة وللجهتين الاقتصادية والأمنية. فصحيح كما سبق القول، أن للملف الإسلامي في أوروبا أسباباً داخلية واستراتيجية (مثل منع تركيا من دخول الاتحاد الأوروبي، من دون ان يكون هناك إسلام تركي عنيف)، لكن لليبيا، الدولة البترولية القريبة، لدى الأوروبيين وضعاً خاصاً من عدة نواح. وينبغي ان نأخذ ذلك في الاعتبار عند تأمّل الاتجاهات العربية العامة للتغيير، وتأثيراتها في المحيط الإقليمي والعربي. إنما لنعد الى المشهد العربي للتغيير في ضوء التجارب الماضية. أما الظاهرةُ الجهادية، فتحتاج الى تحليل خاص، وأما الظاهرتان الأخريان (الصحوية السياسية/ والصحوية الانقسامية)، فقد قامتا على ثنائية مع الأنظمة العسكرية والأمنية الموجودة منذ عقود. وما تمكّن الصحويون بشقيهم من إسقاط تلك الأنظمة، وظلت محميةً من الخارج والداخل. وها هو فريق منهم يحاول الاندماج الآن أو التلاؤم ضمن المشهد العام. أفلا يجوز لنا ان نأمل (وعلى ذلك شواهد) أن يتطور الإسلام السياسي، وأن يتضاءل الإسلام الانقسامي، ما دام الطرف الآخر في الثنائية قد انتهى أو كاد؟ إن هذين الطرفين يمثلان فئات مختلفة ومعتبرة ضمن المشهد الاجتماعي والثقافي العربي. وقد كانا محرومين من التمثيل والمشاركة مثل سائر القوى الاجتماعية المعتبرة، وكانت هناك قوى وفاعليات إقليمية ودولية تدعمهم أو «تلعب» معهم مثلما كانت الأنظمة تفعل. والراجحُ ان البضاعة والسلع الإقليمية والدولية ما عاد الترحيب بها كبيراً (هناك استثناءات بالطبع)، ولا عادت جذابة. ولذا، ولهذه الأسباب جميعاً، يجوز توقّع نوع من التآلف والاندماج في المشهد العربي، يحتاج بالطبع الى وقت ونُصح، ويجعلُ بالتالي وبالتدريج ذلك التنامي في المخاوف والهواجس الداخلية والخارجية، أموراً لا مبرر لها. ملاحظة: عندما كنتُ أكتب هذه المقالة، اعترضت فرنسا بالمجلس الوطني الانتقالي الذي يجمع الثائرين على القذافي، بوصفه الشرعية الوحيدة التي تمثل الشعب الليبي. وقد اختلفت أنظار المراقبين في أسباب القرار الفرنسي المفاجئ، فهناك من قال ان فرنسا تريد تدارك الخطأ الذي وقعت فيه تجاه الثورتين بتونس ومصر. وهناك من لم يستبعد ان تكون في ذلك مزايدة على الأميركيين والبريطانيين والإيطاليين والألمان الذين كانت لهم علاقات وثيقة بنظام القذافي في السنوات الأخيرة، بخلاف فرنساوإسبانيا على سبيل المثال. فقد كان هناك من شبّه ما يحدث في العالم العربي في هذه الشهور – وبالنسبة لأوروبا على الخصوص – ما حدث عندما انهار جدار برلين! والراجح الآن ان يتخذ الاتحاد الأوروبي الموقف نفسه الذي سبقت إليه فرنسا. وهكذا، فإن متغيرات العالم العربي توشك ان تغيّر النظرة العالمية الى العرب والإسلام والمسلمين، وإنما يبقى ذلك رهناً بالفعل بمستقبل التطورات الداخلية العربية، وبأنظمة الحكم التي ستقوم، وبالإطار العربي الجامع (= الجامعة العربية)، والذي ستعاد هكيلته بالتأكيد على وقع ضرورات التلاؤم مع تلك المتغيرات، لقد سقط الجدار الذي كان يحميه «نظامُ» المصالح والمخاوف الغربية، وبقي ان يتمكن الإسلاميون والأقليات المختلفة الأخرى من اللحاق بروحيات الأكثريات الجديدة: «والله غالبٌ على أمره، ولكنّ أكثرَ الناس لا يعلمون» (صدق الله العظيم).