الحراك المجتمعي العربي الجاري اليوم على مسرح الكثير من مجتمعات بلادنا العربية، حراك سياسي بامتياز، حراك يخرج على الضد من انسدادات واستعصاءات التغيير، نحو انفراج تاريخي يؤسس لنزوع من التحرر ولشغف ديموقراطي قادم، يدفن معه انسدادات تاريخية طويلة تسيّدها سلطوياً استبداد أنظمة سياسية، واستبداد قوى دينية إسلاموية، كان من نتائج استبدادهما تصحير مجتمعاتنا العربية، وتغييب السياسة والقانون من سرديات حياتنا اليومية، إلى حد موت السياسة، بل اغتيالها والتمثيل بجثتها طوال عقود من السنين التي حكمت فيها أنظمة تسلطية استبدادية، عانت فيها مجتمعاتنا نتائج كارثية مدمرة، وئد خلالها الكثير من ومضات النهوض والتنوير والحكم الرشيد، وليبرالية العقود الاجتماعية والقانونية الموروثة منذ عهود الاستعمار. بين روح التغيير ورياحها التي هبت في حقبة إنهاء الاستعمار في خمسينات القرن الماضي وستيناته، ورياح التغيير التي تفشت روحها المعطاءة، وتهبّ الآن لإنهاء أنظمة استبدادية أبوية بونابرتية وتوتاليتارية؛ أكثر من مشترك، يقف في مقدمها وفي طليعتها؛ تلك السيولة والسهولة التي تسجل لانتقال عملية التغيير الشعبية من بلد إلى آخر، حتى في ظل غياب قيادة سياسية متبلورة؛ فردية أو جماعية/ حزبية أو نقابية، ما يحمل على الاعتقاد أن منطلق التغيير الشعبي، لم يكن لينتظر بلورة أو تشكّل مثل تلك القيادة من بين صفوف الأحزاب الموجودة، أو صوغ برنامج سياسي كامل أو مكتمل، بل إن الحركة الشعبية وهي تنضج أهدافها وبرامجها في الميادين العامة، إنما هي تهيئ لإنضاج قيادة صلبة لها، من مهماتها المبدئية والأولية تحديد الشعار السياسي المناسب في كل لحظة من لحظات الانتفاض، وصولاً إلى إنضاج لحظة ثورية أشمل، تترجم مبادئ الثورة الشعبية الآنية والمستقبلية وأهدافها. وفي معمعة مواصلة الهبوب العاصف لرياح التغيير، ها نحن نرى مجموعة انتقالات من تطبيق إلى آخر مختلف، لأساليب الانتفاضة الشعبية وتكتيكاتها، وهي تبدأ سلمية بقرار من جمهورها وقياداتها الافتراضية والواقعية، لتكمّل هكذا... على رغم القمع والارهاب الفاشي الاستباحي الذي تقوم به أجهزة أو بلطجية الأنظمة، التي تثبت اليوم أنها لا تجيد من فنون المقاومة سوى «مقاومة» شعبها، في محاولة للإبقاء على سلطتها وهي تواجه جماهير لم تعد تحتمل استبداد الأنظمة، واستطالة الانسدادات التاريخية التي حوّلت مجتمعاتها إلى كتل مهملة ومهمشة ومجوّعة، لا عاصم لها من القتل أو الانهيار سوى الانتفاض، فكانت الثورات الشعبية مفتتحاً نحو انفراج تاريخي، يجسّد أحلام أو تطلعات شعوب لم تكد تتحرر من سلطات الاستعمار القديم، حتى كبلتها بالأغلال أنظمة استبدادية أقامت ورزحت طويلاً على صدورها، من دون أن تخطو خطوة واحدة باتجاه الحق والعدل والقانون والتنمية الحقيقية، وبناء اجتماع مواطني وثيق الصلة بالعقود الاجتماعية. وها نحن في موسم هبوب رياح تغيير بأدوات شعبية، ووفقاً لمتطلبات واحتياجات محلية وطنية، لا علاقة لخارج إقليمي أو دولي في فرض أجنداته عليها، وإلاّ لكان هذا الخارج يفضل استمرار «الاستقرار» على نزوع التغيير الذي أطاح أنظمة تابعة، وموالية لغرب استعماري يحاول مواءمة أهدافه وأقلمتها في التوفيق التلفيقي بين التغيير والاستقرار. وفي هذا السياق يمكن العودة بالأذهان إلى الموقف الأميركي والمواقف الأوروبية من ثورتي الشعبين التونسي والمصري في الفترة القريبة الماضية، وها نحن نرى مواقف مماثلة، بل أسوأ مما يجري في ليبيا، فالمصالح الرابطة بين نظام العقيد وواشنطن، والكثير من العواصم الأوروبية، أكبر من أن يجرى التضحية بها؛ قبل تقرير الشعب الليبي لمصير نظامه الفاشي، وهو يرتكب من الجرائم ما يفوق ما ارتكبته أنظمة مماثلة في الفضاء الأوروبي (صربيا/كوسوفو) حين جرى تدخل حلف الناتو عسكرياً ضد نظام ميلوشيفيتش في صربيا. بين التغيير والاستقرار، تنحاز مجتمعات الشعوب التي عاشت طويلاً تحت هيمنة الأنظمة السلطوية، إلى التغيير، بعد أن فاضت بها قدرة التحمّل، ولم يعد في مقدورها أن تحني ظهورها لوقائع إخضاعها كرهائن للصمت؛ الصمت على تزوير التاريخ، تزوير الحرية، تزوير الديموقراطية، تزوير التنمية، تزوير الهوية، تزوير الدولة، تزوير الوطن، تزوير كل ما هو مشرق في حياتنا. وحدها السلطة بانفلاتها كانت نهباً للطغاة، ورهينة للإكراه والغلبة الاستبدادية، حتى باتت الدولة رهينة السلطة، والوطن رهينة دولة بوليسية، والمجتمع رهينة أتباع «دولة دينية»، إلى أن كان الانتفاض الشعبي بمثابة الثورة الحقيقية على السلطة وكل نزعاتها الشخصانية والبوليسية، وصولاً إلى سلطة استبداد غير مرئية يمتهنها إسلامويو «دولة الشريعة» التي لا يمكن الوثوق بأصحابها، نظراً لتوجهاتهم الانتقائية والانقلابية الانتهازية، وعدائهم لدولة مدنية تؤسسها الشرعية الشعبية. إن خشية الغرب من استيلاء الإسلاميين على السلطة، تقابلها موضوعياً تلك الفرية التي يشيعها أهل السلطة، تحذيراً من هيمنة القاعدة وأتباع بن لادن على السلطة في غياب «سلطة الاستقرار»، وذلك في التقاء مصلحي بين الغرب وأتباعه من السلطات الحاكمة للوقوف في وجه التغيير وثورات الجماهير الشعبية، وفي محاولة للعودة بالوضع إلى ما كان عليه «استقرار» الأنظمة التابعة. أما في ما يتعلق بتكرار تجربة حزب العدالة والتنمية التركي في مصر أو تونس أو ليبيا أو غيرها، فمن المؤكد أن التجارب الأخيرة التي لم يتبلور فيها بعد شكل السلطة، تختلف اختلافاً بيّناً عن تجربة تركية عمرها أكثر من ستين عاماً، سادت فيها علمانية الدولة وقامت فيها ديموقراطية ليبرالية عريقة، على رغم الانقطاعات التي شهدتها، جرّاء الانقلابات العسكرية وتغوّل سلطة العسكر المدعومة من قوى في الغرب، طالما ادّعت دفاعها المستميت عن الديموقراطية! ومهما يكن من أمر، فإن محاولات نسخ التجربة التركية أو إسقاطها في واقع بعض المجتمعات العربية، ليست متاحة وممكنة الآن؛ نظراً للفوارق التاريخية، ومعطيات التشكل الطبقي والقواعد الاجتماعية المتطورة هناك والمتخلفة هنا، حيث الواقع مختلف، وبالكاد يخرج تواً من تحت عباءة سلطة استبدادية، وما يني طرياً حلمه ببناء ديموقراطي وعقد اجتماعي وقانوني جديد، تعيد فيه السياسة الحركة إلى مفاصل مجتمعات، توقف نموها عند مستويات دنيا من فاعلية الاستنارة والحداثة والنهوض، وحيث الطريق نحو التغيير الناجز ما زال أطول مما يتصور المستعجلون، على رغم بدء الانفراج التاريخي الذي تغذيه اليوم؛ روح التغيير والثورات الشعبية المتناسلة. * كاتب فلسطيني