يدخل الفن اللبناني إلى «البيينالي الدولي للفنون المعاصرة في أميركا اللاتينية» (BiennalSur) الذي يقام للمرة الأولى في الأرجنتين، من باب المكان كوسيط بين السياسي والشعري. هذه التظاهرة الفنية الأولى من نوعها التي ولدت من جهود مشتركة بين 12 بلداً في أميركا الجنوبية، ترمي إلى تعزيز الحوار البنّاء بين محرّكي المشهد الفني الدولي وعالم الفن والجمهور العريض سواء في جنوب الكرة الأرضية أو في شمالها، من خلال ثيمة القضايا المتعلقة بالفضاء العام والأرض والهجرة. وأراد منظمو البينالي الضخم الذي يشارك فيه 350 فناناً و32 مدينة و16 بلداً من القارات الخمس تحت سماء الأرجنتين، الجمع بين سياقات اجتماعية وثقافية وفنية تربط مدنا متباعدة جغرافياً بعضها ببعض من خلال التحديات التي تواجهها اقتصادياً وتكنولوجياً وسياسياً. والفن هو مرآة كل هذه التحديات الحضرية التي تواجه الإنسان في عصر تكنولوجيا النانو. اختارت لجنة مختصة على رأسها مدير البيينالي أنيبال جوزامي الأرجنتيني من أصل لبناني، المشاريع التسعين التي فازت بالمشاركة في البيينالي من بين 2543 مشروعاً من 78 بلداً، ومن بينها مشروع المنسّقة الفنية اللبنانية نايلة تمرز بعنوان «الشعرية، والسياسة، والأمكنة» (Poetics, Politics, Places). ويجمع أعمال 8 فنانين من لبنان والشرق الأوسط، في معرض يفتتح بعد غد الجمعة في الأرجنتين وتحديداً في «متحف الفنون الريفية» في مدينة توكومان (Tucumán) حيث تُقيم الجالية اللبنانية الأكبر في الأرجنتين. ولطالما شغلت قضية الربط بين السياسي والشعري نايلة تمرز الكاتبة ومديرة قسم النقد الفني ومهن المتاحف والمعارض في كلية الآداب في الجامعة اليسوعية في بيروت، والحائزة دكتوراه من جامعة السوربون الجديدة (باريس 3) في الأدب والحضارة الفرنسيين. وقد أجرت بحوثاً حول الموضوع وكتبت مقالات نقدية فنية تتناول أعمال ميراي قصار ونديم أصفر (اختارتهما ليشاركا في معرضها) حول الهجرة والمنفى والوطن. وتقول ل «الحياة»: «أردتُ أن أظهر من خلال الأعمال التي اخترتها كيف يمكن قراءة المنظر الطبيعي (Landscape) على أنه مكان نعبّر فيه عن السياسة، تماماً كما يُفسّر في تاريخ الفن على أنه مكان شاعري». اختارت تمرز أعمالاً فنية متعددة الوسائط (فيديو، صوت، موسيقى، كتابة، تصوير فوتوغرافي، رسم، شعر معروض في ليبوريلو (Leporello)، تجهيز فني) لثمانية فنانين عاشوا معظم حياتهم بعيداً من أوطانهم أو تنقّلوا بين بلدان كثيرة بفعل الحرب والهجرة والوضعين الاقتصادي والأمني، وبالتالي تمحورت أعمالهم بشكل أو بآخر حول الأرض وتحرير الحدود والوطن والهوية والذاكرة والعاطفة التي من خلالها يرى الفنان أرضه. كما اختارت أن ينتمي الفنانون إلى أربعة أجيال مختلفة. ففي المعرض لوحات وشعر معروض على ليبوريللو للكاتبة والشاعرة والرسامة اللبنانية– الأميركية المقيمة في باريس إيتيل عدنان. وهناك فيديو ورسوم للفنانة المتعددة الوسائط ميراي قصار التي تعيش وتعمل حالياً بين بيروتوباريس، وهي ولدت في مدينة زحلة (شرق لبنان) وتتحدر من عائلة لها جذور في الموصل العراقية وفي ماردين التركية. واختارت نايلة تمرز عملاً للمؤلفة الموسيقية وعازفة البيانو وفنانة الصوت والفيديو سينتيا زافين الأرمنية التي نزحت عائلتها إلى لبنان نتيجة الإبادة الجماعية التي تعرض لها الشعب الأرمني بين 1915 و1917 على يد السلطنة العثمانية. وهناك أعمال للمصوّر اللبناني جيلبير الحاج الذي يعيش بين بيروت وبرلين، إلى جانب أعمال لفنان الفيديو والمصوّر نديم أصفر المشغول بقضايا الهوية والذاكرة، والفنانة اللبنانية المتعددة الوسائط دانيال جنادري التي تنقلت بين بيروت ولندن وهانوفر (ألمانيا) وتستقر حالياً في نيويورك وقد شغلها موضوع المنظر الطبيعي ومشاهده، إضافة إلى المهندسة والرسامة والنحاتة الأردنية صبا عناب التي تعيش بين عمّان وبيروت وتتمحور أعمالها وأبحاثها حول الموضوع الحضري أو المديني والهجرة والنزوح. وبين هؤلاء الفنانين الرائدين في الفن المعاصر، قررت نايلة تمرز أن تُدخل الفن الحديث إلى المعرض عبر رائد الفن الانطباعي اللبناني صليبا الدويهي (1909- 1994) الذي تنقل هو أيضاً بين لبنان وفرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة، «لخلق حوار بين المعاصر والحديث أولاً، وبين الرواد القدامى والرواد الجدد ثانياً ما يُغني المعرض من حيث التنوّع، والأهم هو تأكيد تطوّر المفهوم الحضري الفلسفي للمشهد الطبيعي والارض والوطن والهوية بين الفن الحديث والمعاصر»، كما قالت ل «الحياة». إنها «لعبة صدى مجازية بين الفن المفاهيمي المعاصر وبين الفن الانطباعي» أرادتها تمرز كي تبحث في «كيفية دخول الخطاب السياسي والاجتماعي إلى المنظر الطبيعي، وبالتالي مفهوم الأرض الذي يبقى أولاً وأخيراً عاطفياً على تماس بالذاكرة والمكان». ترافق معرض «الشعرية، والسياسة، والأمكنة» نشاطات وندوات ومحاضرات وعروض أفلام وطاولات مستديرة بين لبنان والارجنتين، تستمر حتى كانون الأول (ديسمبر) المقبل، وهي «ستطرح أسئلة تتعلق بالنزوح والهجرة، في صميم حقائق هذا العصر، وخصوصاً في صميم تاريخ لبنان ومنطقة الشرق الأوسط»، كما تقول تمرز. وتوضح: «هذه الأسئلة ستقود كذلك إلى فهم أعمق للمفاهيم– المفاتيح، التي تُحيي الفن اللبناني المعاصر وتنعشه، في فضاء فنّ عالميّ معاصر أضحى مُعولماً. كما سيتيح تقديم مساحة للتفاعل والحوار، قابلة للامتداد بين لبنان المعاصر والانتشار اللبناني، عبر إِعلام غير خلافيّ». وترى تمرز أن «الفن الذي يهدف إلى أن يكون عامل تحويل واندماج للفكر، يبتغي أيضاً وضع خريطة لمساحة سياسية تتقاطع عليها ومنها فسحة للشعر وفسحات داخلية وجغرافية». وأخيراً تعوّل نايلة تمرز على مشاركة لبنان في هذه التظاهرة الضخمة لأنها تفتح للفنانين أنفسهم وللفن اللبناني آفاقاً جديدة وسوقاً واسعة في أميركا الجنوبية تحتاج إلى تفعيل الحوارات واقتصاد الفن بين الجهتين.