يكفي عبد الحميد العويش أن يسند ظهره لجذع النخلة، ليشعر بالراحة من ضغوطات الحياة، لا لكونه في عزلة مع الطبيعة، بعيداً عن صخب المدينة فقط، بل للعلاقة التي تربطه في النخلة، التي تجاوزت علاقة الإنسان بشجرة جامدة، لتتحول مع مرور الزمن إلى علاقة «روحية غريبة». ويقول: «أستطيع بعد مرور أكثر من 35 سنة من العمل كمزارع أن أصف علاقتي بالنخلة بصفات لا يمكن تصورها، فهي أمي وأختي، أو كما يقال «عمتنا». ويستطيع العويش، أن يفرق بين النخلة والأخرى، ليس في مكان تواجده فحسب، بل حتى في الثمر التي تطرحه، ما يدلل على «قوة العلاقة التي تربطنا، فهي مميزة جداً»، بحسب قوله. ويمضي عبد الحميد أوقات طويلة يحادث النخلة حين يرتقي جذعها، أو يستند إليها، وربما يخاصمها في أوقات عدة، لكنه يشعر ب «سعادة غامرة» حين يحين وقت ريِّها وترتوي. ويقول: «هي واحدة من أفراد عائلتي، فحين أسقيها أشعر أنني رويت عطشي، وهو أمر لا يشعر به إلا الآباء والأمهات». ويطلق العويش، على كل نخلة في مزرعته اسماً مختلفاً، لا ليميز بينها فحسب، بل ليكون للاسم أثر عليها بحسب قوله، «تربطني علاقة قوية في نخلة أطلقت عليها «أم الخير» لكثرة إنتاجها، وأخرى اسمها «العمة»، وهناك «أم الهلاهل»، و»المصونة»، و»تاج العز»، و»المبروكة»، و»العزيزة»، وأسماء أخرى كثيرة». ويعزو هذه العلاقة «القوية»، إلى أن «المسألة متعلقة في المشاعر، فكثيرون يعتقدون بعدم إحساس الحيوانات والحشرات. فيما يخبرنا القرآن الكريم عن قصة الهدهد والنملة، وغيرهما. والمزارعون يؤمنون بان للنباتات أحاسيس وشعوراً، وأنها متى ما كانت مرتاحة تُثمر أكثر». وورث عبد الحميد هذه العلاقة «الغريبة» من والده وأجداده، مضيفاً أن «والدي كان أكثر تعلقاً مني في النخلة، حتى أنه ينخرط في بكاء شديد إذا ما أردنا قلع إحداها، لسبب أو آخر. ولا يحضر إلى المزرعة لفترة طويلة، حداداً عليها، وقد ورثت منه هذه الصفة، فلا أستطيع أن أرى إحدى نخلاتي تسقط، أو تستعد للسقوط، إذ أعيش في حال نفسية سيئة جداً»، مشبهاً شعوره هذا ب «عدم مقدرة الأب على رؤية ابنه يحتضر أمامه»، مضيفاً «لست الوحيد، فأحد مزارعي قريتنا، مات والده عندما سقط من نخلة مرتفعة جداً. وحين قرر إخوته قلع النخلة، كان هذا المزارع في حداد على والده والنخلة. ولم يشارك في قلعها». ويولي المزارعون في الأحساء، النخلة «تقديراً خاصاً»، لا يولونه لغيرها، فبعضهم يعتقد أنه «لا يجوز أن يتسلق أي شخص جذعها، وهو يرتدي حذاء، ويعتبرون ذلك أمراً مُعيباً، وربما يستحق من يقدم عليه العقاب. ولا يمكن أن يوطئ ثمرها، سواء الرطب (البلح)، أو التمر بالأقدام أيضاً». وتلقى النخلة عناية خاصة جداً، إذ تزدحم الفسائل في المزارع بصورة منظمة، وتفصل بينها مسافات مدروسة جداً. ويقول العويش: «اعتدت منذ زمن، وأظن أنني تعلمت هذا من والدي، فلا أصعد النخلة من دون أن أقرأ البسملة، وبعض السور والآيات، تكريماً لأول شجرة زرعت على الأرض. وهذه عادة لم أتركها أبداً»، مضيفاً «في الأحساء بصورة خاصة، هناك علاقة قوية مع هذه الشجرة، بصورة قد تثير استغراب الآخرين. ولكن من يعرف السر لا يمكنه إلا أن يشعر بالسعادة، فالنخلة هويتنا، وعنوان كفاحنا في تأمين لقمة العيش»، لافتاً في هذا الصدد إلى ان الشعار الوطني لمملكة هو «سيفين ونخلة، وهذه دلالة على مكانتها». وبحسب إحصاءات وزارة الزراعة، بتجاوز مجموع عدد النخيل المزروعة في الأحساء، ثلاثة ملايين نخلة. ويصادف المتنقل في طرق الواحة صفوفاً طويلة من هذه الشجرة، وكأنما ترحب بزوار الأحساء. وبإطلالة من أعلى قمة في جبل القارة، تملأ أنظار السياح صورة رؤوس النخيل، في مشهد مميز يحاكي علاقة هذه الواحة في هذه الشجرة.